فصل: تفسير الآية رقم (114)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


وقال في الباب الرابع عشر وأربعمائة بعد أن أنشد‏:‏

من رأى الحق كفاحاً علنا *** إنما أبصره خلف حجاب

وهو لا يعرفه وهو به *** إن هذا لهو الأمر العجاب

كل راء لا يرى غير الذي *** هو فيه من نعيم وعذاب

صورة الرائي تجلت عنده *** وهو عين الراء بل عين الحجاب

فإذا رآه سبحانه الرائي كفاحاً فما يراه إلا حتى يكون الحق جل جلاله بصره فيكون هو الرائي نفسه ببصره في صورة عبده فأعطته الصورة المكافحة إذا كانت الحاملة للبصر ولجيمع القوى الخ‏.‏ وقال في الباب الحادي وأربعمائة بعد أن أنشد‏:‏

قد استوى الميت والحي *** في كونهم ما عندهم شي

مني فلا نور ولا ظلمة *** فيهم ولا ظل ولا في

رؤيتهم لي معدومة *** فنشرهم في كونهم صلى

وفهمهم إن كان معناهم *** عنه إذا حققته غي

إن كل مرئي لا يرى الرائي إذا رآه منه إلا قدر منزلته ورتبته فما رآه وما رأى إلا نفسه ولولا ذلك ما تفاضلت الرؤية في الرائين إذ لو كان هو المرئي ما اختلفوا لكن لما كان هو سبحانه مجلي رؤيتهم أنفسهم لذلك وصفوه بأنه جل شأنه يتجلى ولكن شغل الرائي برؤية نفسه في مجلى الحق حجبه عن رؤية الحق فلو لم تبد للرائي صورته أو صورة كون من الأكوان ربما كان يراه فما حجبنا عنه إلا رؤية نفوسنا فيه فلو زلنا عنا ما رأيناه لأنه ما كان يبقى بزوالنا من يراه وإن نحن لم نزل فما نرى إلا نفوسنا فيه وصورنا وقدرنا ومنزلتنا فعلى كل حال ما رأيناه وقد نتوسع فنقول‏:‏ قد رأيناه ونصدق كما أنه لو قلنا رأينا الإنسان صدقنا في أن نقول رأينا من مضى من الناس ومن بقي ومن في زماننا من كونهم إنساناً لا من حيث شخصية كل إنسان ولما كان العالم أجمعه وآحاده على صورة حق ورأينا الحق فقد رأيناه وصدقنا وإذا نظرنا في عين التمييز في عين عين لم نصدق إلى آخر ما قال‏.‏

وفي ذلك تحقيق نفيس لهذا المطلب، ومنه يعلم ما في قول بعضهم ‏{‏لاَّ تُدْرِكُهُ الابصار‏}‏ لغاية ظهوره سبحانه ‏{‏وَهُوَ اللطيف‏}‏ إذ لا ألطف كما قال الشيخ الأكبر قدس سره من هوية تكون عين بصر العبد ‏{‏الخبير‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 103‏]‏ أي العليم خبرة أنه بصر العبد ‏{‏والله مِن وَرَائِهِمْ مُّحِيطٌ‏}‏ ‏[‏البروج‏:‏ 20‏]‏ و‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء وَهُوَ السميع البصير‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 11‏]‏ وعن الجنيد قدس سره اللطيف من نور قلبك بالهدى وربى جسمك بالغذاء وجعل لك الولاية بالبلوى‏.‏ ويحرسك وأنت في لظى‏.‏ ويدخلك جنة المأوى‏.‏ وقال غيره‏:‏ اللطيف إن دعوته لباك وإن قصدته آواك، وإن أحببته أدناك وإن أطعته كافك‏.‏ وان أغضبته عافاك وإن أعرضت عنه دعاك‏.‏ وإن أقبلت إليه هداك وإن عصيته راعاك‏.‏ وهو كلام ما ألطفه ‏{‏قَدْ جَاءكُمْ بَصَائِرُ مِن رَّبّكُمْ‏}‏ وهي صور تجليات صفاته‏.‏ وقال بعض العارفين‏:‏ إنها كلماته التي تجلى منها لذوي الحقائق وبرزت من تحت سرادقاتها أنوار نعوته الأزلية ‏{‏فَمَنْ أَبْصَرَ‏}‏ واهتدى ‏{‏فَلِنَفْسِهِ‏}‏ ذلك الإبصار أي أن ثمرته تعود إليه ‏{‏وَمَنْ عَمِىَ‏}‏ واحتجب عن الهدى ‏{‏فَعَلَيْهَا‏}‏ عماه واحتجابه ‏{‏وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 104‏]‏ بل الله تعالى حفيظ عليكم لأنكم وسائر شؤونكم به موجودون ‏{‏وكذلك نُصَرّفُ الايات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 105‏]‏ قال ابن عطاء أي حقيقة البيان وهو الوقوف معه حيث ما وقف والجرى معه حيث ما جرى لا يتقدم بغلبته ولا يتخلف عنه لعجزه، وقال آخر‏:‏ المعنى لقوم يعرفون قدري ويفهمون خطابي لا من لا يعرف مكان خطابي ومرادي من كلامي ‏{‏اتبع مَا أُوحِىَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ‏}‏ قيل‏:‏ هو إشارة إلى وحي خاص به صلى الله عليه وسلم لا يتحمله غيره أو إشارة إلى الوحي بالتوحيد ولذا وصف سبحانه نفسه بقوله‏:‏ ‏{‏لاَ إله إِلاَّ هُوَ‏}‏ ثم قال جل شأنه‏:‏ ‏{‏وَأَعْرِضْ عَنِ المشركين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 106‏]‏ المحجوبين بالكثرة عن الوحدة ‏{‏وَلَوْ شَاء الله مَا أَشْرَكُواْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 107‏]‏ بل شاء سبحانه إشراكهم لأنه المعلوم له جل شأنه أزلا دون إيمانهم ولا يشاء إلا ما يعلمه دون ما لا يعلمه من النفي الصرف ‏{‏وَلاَ تَسُبُّواْ الذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله‏}‏ بل أرشدوهم إلى الحق بالتي هي أحسن ‏{‏فَيَسُبُّواْ الله عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ‏}‏ بأن يسبوكم وأنتم أعظم مظاهره ‏{‏كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 108‏]‏ إذ هو الذي طلبوه منا بألسنة استعدادهم الأزلي ومن شأننا أن لا نرد طالباً ‏{‏وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم لَئِن جَاءتْهُمْ ءايَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا‏}‏ أي أنهم طلبوا خوارق العادات وأعرضوا عن الحجج البينات لاحتجابهم بالحس والمحسوس ‏{‏قُلْ إِنَّمَا الايات عِندَ الله قُلْ إِنَّمَا الايات عِندَ الله وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 109‏]‏ لسبق الشقاء عليهم ‏{‏وَنُقَلّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وأبصارهم‏}‏ لاقتضاء استعدادهم ذلك ‏{‏كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ‏}‏ حين أعرضوا عن الحجج البينات أو في الأزل ‏{‏وَنَذَرُهُمْ فِى طُغْيَانِهِمْ‏}‏ الذي هو لهم بمقتضى استعدادهم ‏{‏يَعْمَهُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 110‏]‏ يترددون متحيرين لا يدرون وجه الرشاد ‏{‏وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 33‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏111‏]‏

‏{‏وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ ‏(‏111‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الملئكة‏}‏ تصريح بما أشعر به قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمَا يُشْعِرُكُمْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 109‏]‏ الخ من الحكمة الداعية إلى ترك الإجابة إلى ما اقترحوا وبيان لكذبهم في إيمانهم على أبلغ وجه وآكده أي ولو أنا لم نقتصر على ما اقترحوه ههنا بل نزلنا إليهم الملائكة كما سألوه بقولهم‏:‏ ‏{‏لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا الملئكة‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 21‏]‏ وقولهم‏:‏ ‏{‏لَّوْ مَا تَأْتِينَا بالملئكة‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 7‏]‏‏.‏

‏{‏وَكَلَّمَهُمُ الموتى‏}‏ بأن أحييناهم وشهدوا بحقية الإيمان حسبما اقترحوه بقولهم‏:‏ ‏{‏فَأْتُواْ بِئَابَائِنَا‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 36‏]‏ ‏{‏وَحَشَرْنَا‏}‏ أي جمعنا وسوقنا ‏{‏عَلَيْهِمْ كُلَّ شَىْء قُبُلاً‏}‏ أي مقابلة ومعاينة حتى يواجهوهم كما روي عن ابن عباس وقتادة، وهو على هذا مصدر كما قاله غير واحد وإلى ذلك ذهب ابن زيد، وعنه‏:‏ يقال لقيت فلاناً قبلاً ومقابلة وقبلاً وقبلاً وقبيلاً كله بمعنى واحد وهو المواجهة‏.‏ ونقل الراغب أنه «جمع قابل بمعنى مقابل لحواسهم»، وقيل‏:‏ هو جمع قبيل بمعنى كفيل كرغيف ورغف وقضيب وقضب فهو من قولك‏:‏ قبلت الرجل وتقبلت به إذا تفلت به، ومنه القبالة لكتاب العهد والصك وروي ذلك عن الفراء‏.‏ وعن مجاهد تفسيره بالجماعة على أنه جمع قبيلة كما قال الراغب‏.‏ ونقل تفسيره بالكفيل وبالجماعة وكذا بالمعاينة والمقابلة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوْ تَأْتِىَ بالله والملئكة قَبِيلاً‏}‏ ‏[‏الإسرار‏:‏ 92‏]‏ أي لو أحضرنا لديهم كل شيء تتأتى منه الكفالة والشهادة بحقية الايمان لا فرادى بل بطريق المعية أو لو حشرنا عليهم كل شيء جماعات في موقف واحد‏.‏

‏{‏مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ‏}‏ أي ما صح ولا استقام لهم الإيمان، وانتصاب ‏{‏قُبُلاً‏}‏ على هذه الأقوال على أنه حال من ‏{‏كُلٌّ‏}‏ وساغ ذلك على القول بجمعيته لأن كلاً يجوز مراعاة معناه ومراعاة لفظه كما نص عليه النحاة واستشهدوا له بقول عنترة‏:‏ جادت عليه كل عين ثرة *** فتركن كل حديقة كالدرهم

إذ قال تركن دون تركت فلا حاجة إلى ما قيل‏:‏ إن ذلك باعتبار لازمه وهو الكل المجموعي وقرأ نافع وابن عامر ‏{‏قُبُلاً‏}‏ بكسر القاف وفتح الباء وهو مصدر بمعنى مقابلة ومشاهدة، ونصبه على الحال كما قال الفراء والزجاج وكثير وعن المبرد أنه بمعنى جهة وناحية فانتصابه على الظرفية كقولهم‏:‏ لي قبل فلان كذا‏.‏ وقرىء ‏{‏قُبُلاً‏}‏ بضم فسكون‏.‏ و‏{‏مَا كَانُواْ‏}‏ الخ جواب لو وهو إذا كان منفياً لا تدخله اللام خلافاً لمن وهم فقدرها‏.‏

وعلل هذا الحكم بسوء استعدادهم الثابت أزلاً في علم الله تعالى المتعلق بالأشياء حسبما هي عليه في نفس الأمر وعلله البعض بسبق القضاء عليهم بالكفر‏.‏ واعترض عليه بعض الأفاضل بأن فيه تعليل الحوادث بالتقدير الأزلي ولايخفى فساده، وعلله ببطلان استعدادهم وتبدل فطرتهم القابلة بسوء اختيارهم، وتبعه في ذلك شيخ الإسلام وعلله بتماديهم في العصيان وغلوهم وتمردهم في الطغيان معترضاً على ما ذكر بأنه من الأحكام المترتبة على التمادي المذكور حسبما ينبىء عنه قوله تعالى‏:‏

‏{‏وَنَذَرُهُمْ فِى طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 110‏]‏ وتعقب ذلك الشهاب قائلاً‏:‏ إنه ليس بشيء لأن ما ذكر على مذهب الأشعري القائل بأنه لا تأثير لاختيار العبد وإن قارن الفعل عنده، ولا يلزم الجبر كما يتوهم على ما حققه أهل الأصول‏.‏ ولا خفاء في كون القضاء الأزلي سبباً لوقوع الحوادث ولا فساد فيه، وأما سوء اختيار العبد فسبب للقضاء الأزلي، وتحقيقه كما قيل أن سوء الاختيار وإن كان كافياً في عدم وقوع الإيمان لكنه لا قطع فيه لجواز أن يحسن الإختيار بصرفه إلى الإيمان بدل صرفه إلى الكفر فكان سوء اختياره فيما لا يزال سبباً للقضاء بكفره في الأزل فبعد القضاء يكون الواقع منه الكفر حتماً كما قال سبحانه ‏{‏وَلَوْ شِئْنَا لاَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 13‏]‏ انتهى‏.‏

وأنا أقول وإن أنكر على أرباب الفضول‏:‏ إن المعلل بسوء الاستعداد هو السالك مسلك السداد، وتحقيق ذلك أنه قد حقق كثير من الراسخين وأهل الكشف الكاملين أن ماهيات الممكنات المعلومة لله تعالى أزلاً معدومات متميزة في نفسها تمييزاً ذاتياً غير مجعول لما حقق من توقف العلم بها على ذلك التميز وإنما المجعول صورها الوجودية الحادثة وأن لها استعدادات ذاتية غير مجعولة تختلف اقتضاءاتها، فمنها ما يقتضي اختيار الإيمان والطاعة ومنها ما يقتضي اختيار الكفر والمعصية والعلم الإلهي متعلق بها كاشف لها على ما هي عليه في أنفسها من اختلاف استعداداتها التي هي من مفاتح الغيب التي لا يعلمها إلا هو واختلاف مقتضيات تلك الاستعدادات فإذا تعلق العلم الإلهي بها على ما هي عليه مما يقتضيه استعدادها من اختيار أحد الطرفين الممكنين أعني الإيمان والطاعة أو الكفر والمعصية تعلقت الإرادة الإلهية بهذا الذي اختاره العبد حال عدمه بمقتضى استعداده تفضلاً ورحمة لا وجوباً لغناه الذاتي عن العالمين المصحح لصرف اختيار العبد إلى الطرف الآخر الممكن بالذات إن شاء فيصير مراد العباد بعد تعلق الإرادة الإلهية مراد الله تعالى، ومن هذا يظهر أن اختيارهم الأزلي بمقتضى استعدادهم متبوع للعلم المتبوع للإرادة مراعاة للحكمة تفضلاً وإن اختيارهم فيما لا يزال تابع للإرادة الأزلية المتعلقة باختيارهم لما اختاروه فهم مجبورون فيما لا يزال في عين اختيارهم أي مساقون إلى أن يفعلوا ما يصدر عنهم باختيارهم لا بالإكراه والجبر‏.‏ ومنه يتضح معنى قول أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه‏:‏ إن الله تعالى لم يعص مغلوباً ولم يطع مكرهاً ولم يملك تفويضاً ولم يكونوا مجبورين في اختيارهم الأزلي لأنه سابق الرتبة على العلم السابق على تعلق الإرادة والجبر تابع للإرادة التابع للعلم التابع للمعلوم الذي هو هنا اختيارهم الأزلي فيمتنع أن يكون تابعاً لما هو متأخر عنه بمراتب فمن وجد خيراً فليحمد الله تعالى لأنه سبحانه متفضل بإيجاد ما اختاروه لا يجب عليه مراعاة الحكمة ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه لأن إرادته جل شأنه لم تتعلق بما صدر منهم من الأفعال إلا لكونهم اختاروها أزلاً بمقتضى استعدادهم فاختارها تعالى مراعاة للحكمة تفضلاً، والعباد كاسبون بالله تعالى إذ لا كسب إلا بقوة ولا قوة إلا بالله العلي العظيم‏.‏

والله تعالى خالق أعمالهم بهم لأنه سبحانه أخبر بأنه خالق أعمالهم مع نسبة العمل إليهم المتبادر منها صدورها منهم باختيارهم وذلك يقتضي أن المخلوق لله تعالى بالعبد عين مكسوب العبد بالله تعالى، ولا منافاة بين كون الأعمال مخلوقة لله تعالى وبين كونها مكسوبة لهم بقدرتهم واختيارهم، وما شاع عن الأشعري من أنه لا تأثير لقدرة العبد أصلاً وإنما هي مقارنة للفعل وهو بمحض قدرة الله تعالى فمما لا يكاد يقبل عند المحققين المحقين، وقدرة العبد عندهم مؤثرة بإذن الله تعالى لا استقلالاً كما يزعمه المعتزلة ولا غير مؤثرة كما نسب إلى الأشعري ولا هي منفية بالكلية كما يقوله الجبرية، وهذا بحث مفروغ منه وقد أشرنا إليه في أوائل التفسير، وليس غرضنا هنا سوى تحقيق أن عدم إيمان الكفار إنما هو لسوء استعدادهم الأزلي الغير المجعول المتبوع للعلم المتبوع للإرادة ليعلم منه ما في كلام الشهاب وغيره وقد حصل ذلك بتوفيقه تعالى عند من تأمل وأنصف‏.‏

‏{‏إِلاَّ أَن يَشَاء الله‏}‏ استثناء من أعم الأحوال فإن لوحظ أن جميع أحوالهم شاملة لحال تعلق المشيئة لهم فهو متصل وإن لم يلاحظ لأن حال المشيئة ليس من أحوالهم كان منقطعاً أي لكن إن شاء الله تعالى آمنوا واستبعده أبو حيان، وقيل‏:‏ هو استثناء من أعم الأزمان وهو خلاف الظاهر، والالتفات إلى الاسم الجليل لتربية المهابة وإدخال الروعة أي ما كانوا ليؤمنوا بعد اجتماع ما ذكر من الأمور الموجبة للإيمان في حال من الأحوال إلا في حال مشيئته تعالى إيمانهم، والمراد بيان استحالة وقوع إيمانهم بناء على استحالة وقوع المشيئة كما يدل عليه السباق واللحاق‏.‏

‏{‏ولكن أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ‏}‏ استدراك من مضمون الشرطية بعد ورود الاستثناء، وضمير الجمع للمسلمين أو للمقسمين، والمعنى أن حالهم كما شرح ولكن أكثر المسلمين يجهلون عدم إيمانهم عند مجيء الآيات لجهلهم عدم مشيئته تعالى لإيمانهم فيتمنون مجيئها طمعاً فيما لا يكون أو ولكن المشركين يجهلون عدم إيمانهم عند مجيء الآيات لجهلهم عدم مشيئته تعالى لإيمانهم حينئذ فيقسمون بالله تعالى جهد أيمانهم على ما لا يكاد يوجد أصلاً‏.‏ فالجملة على الأول‏:‏ كما قال بعض المحققين مقررة لمضمون قوله تعالى

‏{‏وَمَا يُشْعِرُكُمْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 109‏]‏ الخ على القراءة المشهورة، وعلى الثاني‏:‏ بيان لمنشأ خطأ المقسمين ومناط أقسامهم على تلك القراءة أيضاً وتقرير له على قراءة ‏{‏لاَ تُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 109‏]‏ بالفوقانية، وكذا على قراءة ‏{‏وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏‏.‏

واستدل أهل السنة بالآية على أن الله تعالى يشاء من الكافر كفره وقرر ذلك بأنه سبحانه لما ذكر أنهم لا يؤمنون إلا أن يشاء الله تعالى إيمانهم دل على أنه جل شأنه ما شاء إيمانهم بل كفرهم‏.‏ وأجاب عنه المعتزلة بأن المراد لا أن يشاء مشيئة قسر وإكراه، وعدم إيمانهم يستلزم عدم المشيئة القسرية وهي لا تستلزم عدم المشيئة مطلقاً‏.‏ واستدل بها الجبائي على حدوث مشيئته تعالى وإلا يلزم قدم ما دل الحس على حدوثه‏.‏ وأهل السنة تفصوا عن ذلك بدعوى أن تعلقها بإحداث ذلك المحدث في الحال إضافة حادثة فتأمل جميع ذلك‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏112‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ‏(‏112‏)‏‏}‏

‏{‏وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نِبِىّ عَدُوّاً‏}‏ كلام مبتدأ مسوق لتسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم عما ‏(‏كان‏)‏ يشاهده من عداوة قريش وما بنوا عليها من الأقاويل والأفاعيل، وذلك إشارة إلى ما يفهم مما تقدم، والكاف في موضع نصب على أنه نعت لمصدر مؤكد لما بعده، والتقديم للقصر المفيد للمبالغة، و‏{‏عَدُوّا‏}‏ بمعنى أعداء كما في قوله‏:‏ إذا أنا لم أنفع صديقي بوده *** فإن عدوي لم يضرهم بغضي

أي مثل ذلك الجعل في حقك حيث جعلنا لك أعداء يضادونك ‏(‏ويضارونك‏)‏ ‏(‏1‏)‏ ولا يؤمنون ويبغونك الغوائل ‏(‏ويدبرون في إبطال أمرك مكايد‏)‏ جعلنا لكل نبي تقدمك فعلوا معهم نحو ما فعل معك أعداؤك لا جعلاً أنقص منه‏.‏ وجعله الإمام على هذا الوجه عطفاً على معنى ما تقدم من الكلام، ولعله ليس المراد منه العطف الإصطلاحي، وجوز أن يكون مرتبطاً بقوله سبحانه‏:‏ و‏{‏كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 108‏]‏ أي كما فعلنا ذلك جعلنا لكل نبي عدواً وفيه بعد‏.‏

وأياً ما كان فالآية ظاهرة فيما ذهب إليه أهل السنة من أنه تعالى خالق الشر كما أنه خالق الخير، وحملها على أن المراد بها وكما خلينا بينك وبين أعدائك كذلك فعلنا بمن قبلك من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأعدائهم لم نمنعهم من العداوة لما فيه من الإمتحان الذي هو سبب ظهور الثبات والصبر وكثرة الثواب والأجر خلاف الظاهر‏.‏ ومثله قول أبي بكر الأصم إن هذا الجعل بطريق التسبب حيث أرسل سبحانه الأنبياء عليهم السلام وخصهم بالمعجزات فحسدهم من حسدهم وصار ذلك سبباً للعداوة القوية، ونظير ذلك قول المتنبي‏:‏ فأنت الذي صيرتهم حسداً *** وقيل‏:‏ المراد كما أمرناك بعداوة قومك من المشركين كذلك أمرنا من قبلك من الأنبياء بمعاداة نحو أولئك أو كما أخبرناك بعداوة المشركين وحكمنا بذلك أخبرنا الأنبياء بعداوة أعدائهم وحكمنا بذلك والكل ليس بشيء، وهكذا غالب تأويلات المعتزلة‏.‏

‏{‏شياطين الإنس والجن‏}‏ أي مردة النوعين كما روي عن الحسن وقتادة ومجاهد على أن الإضافة بمعنى من البيانية؛ وقيل‏:‏ هي إضافة الصفة للموصوف والأصل الإنس والجن الشياطين، وقيل‏:‏ هي بمعنى اللام أي الشياطين ‏(‏التي‏)‏ للإنس والجن‏.‏ وفي «تفسير الكلبي» عن ابن عباس ما يؤيده فإنه روى عنه أنه قال‏:‏ إن إبليس عليه اللعنة جعل جنده فريقين فبعث فريقاً منهم إلى الإنس وفريقاً آخر إلى الجن‏.‏ وفي رواية أخرى عنه أن الجن هم الجان وليسوا بشياطين والشياطين ولد إبليس وهم لا يموتون إلا معه والجن يموتون ومنهم المؤمن والكافر، وهو نصب على البدلية من ‏{‏عَدُوّا‏}‏ والجعل متعد إلى واحد أو إلى إثنين وهو أول مفعوليه قدم عليه الثاني مسارعة إلى بيان العداوة، واللام على التقديرين متعلقة بالجعل أو بمحذوف وقع حالاً من ‏{‏عَدُوّا‏}‏ قدم عليه لنكارته، وجوز أن يكون متعلقاً به وقدم عليه للإهتمام، وأن يكون نصب ‏{‏شياطين‏}‏ بفعل مقدر‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏يُوحِى بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ‏}‏ كلام مستأنف مسوق لبيان أحكام عداوتهم أو حال من ‏{‏شياطين‏}‏ أو صفة لعدو، وجمع الضمير باعتبار المعنى كما في البيت السابق، «وأصل الوحي كما قال الراغب الإشارة السريعة ولتضمن السرعة قيل أمر وحي، وذلك يكون بالكلام على سبيل الرمز والتعريض، وقد يكون بصوت مجرد عن التركيب وبإشارة ببعض الجوارح وبالكتابة أيضاً»، والمعنى هنا يلقى ويوسوس شياطين الجن إلى شياطين الإنس أو بعض كل من الفريقين إلى الآخر‏.‏

‏{‏زُخْرُفَ القول‏}‏ أي المزوق من الكلام الباطل منه‏.‏ وأصل الزخرف الزينة المزوقة، ومنه قيل للذهب‏:‏ زخرف، وقال بعضهم‏:‏ أصل معنى الزخرف الذهب، ولما كان حسناً في الأعين قيل لكل زينة زخرفة، وقد يخص بالباطل ‏{‏غُرُوراً‏}‏ مفعول له أي ليغروهم، أو مصدر في موقع الحال أي غارين، أو مصدر لفعل مقدر هو حال من فاعل ‏{‏يُوحِى‏}‏ أي يغرون غروراً، وفسر الزمخشري الغرور بالخداع والأخذ على غرة، ونسب للراغب أنه قال‏:‏ يقال غره غروراً كأنما طواه على غره بكسر الغين المعجمة وتشديد الراء وهو طيه الأول‏.‏

‏{‏وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ‏}‏ رجوع كما قيل إلى بيان الشؤون الجارية بينه عليه الصلاة والسلام وبين قومه المفهومة من حكاية ما جرى بين الأنبياء عليهم السلام وبين أممهم كما ينبىء عنه الالتفات، والتعرض لوصف الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام المعربة عن كمال اللطف في التسلية، والضمير المنصوب في ‏{‏فَعَلُوهُ‏}‏ عائد إلى عداوتهم له صلى الله عليه وسلم وإيحاء بعضهم إلى بعض مزخرفات الأقاويل الباطلة المتعلقة بأمر عليه الصلاة والسلام باعتبار انفهام ذلك مما تقدم وأمر الأفراد سهل، وقيل‏:‏ إنه عائد إلى ما ذكر من معاداة الأنبياء عليهم السلام، وإيحاء الزخارف أعم من أن تكون في أمره صلى الله عليه وسلم وأمور إخوانه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام‏.‏

وفيه أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ‏}‏ كالصريح في أن المراد بهم الكفرة المعاصرون له عليه الصلاة والسلام، وقيل‏:‏ هو عائد إلى الإيحاء أو الزخرف أو الغرور، وفي أخذ ذلك عاماً أو خاصاً احتمالان لا يخفى الأولى منهما، ومفعول المشيئة محذوف أي عدم ما ذكر ولا إشكال في جعل العدم الخاص متعلق المشيئة، وقدره بعضهم إيمانهم‏.‏ واعترض بأن القاعدة المستمرة أن مفعول المشيئة عند وقوعها شرطاً يكون مضمون الجزاء كما في «علم المعاني» وهو هنا ‏{‏مَّا فَعَلُوهُ‏}‏ وتعقب بأنه ههنا ذكر المشيئة فيما تقدم متعلقاً بشيء وهو الإيمان كما أشير إليه ثم ذكر في حيز الشرط بدون متعلق فالظاهر أنه يجوز أن يقدر متعلقه مضمون الجزاء وأن يقدر ما علق به فعل المشيئة سابقاً، ولا بأس بمراعاة كل من الأمرين بحسب ما يقتضيه الحال‏.‏

والمذكور في المعاني إنما هو فيما لم يتكرر فيه فعل المشيئة ولم يكن قرينة غير الجزاء فليعرف ذلك فإنه بديع، والأولى عندي اعتبار مضمون الجزاء مطلقاً، وإنما قال سبحانه هنا ‏{‏وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 137‏]‏ وفيما يأتي ‏{‏وَلَوْ شَاء الله مَا فَعَلُوهُ‏}‏ فغاير بين الإسمين في المحلين لما ذكر بعضهم وهو أن ما قبل هذه الآية من عداوتهم له عليه الصلاة والسلام كسائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام التي لو شاء منعهم عنها فلا يصلون إلى المضرة أصلاً يقتضي ذكره جل شأنه بهذا العنوان إشارة إلى أنه مربيه صلى الله عليه وسلم في كنف حمايته وإنما لم يفعل سبحانه ذلك لأمر اقتضته حكمته، وأما الآية الأخرى فذكر قبلها إشراكهم فناسب ذكره عز اسمه بعنوان الألوهية التي تقتضي عدم الاشتراك فكأنه قيل ههنا‏:‏ إذا كان ما فعلوه من أحكام عداوتك من فنون المفاسد بمشيئة ربك جل شأنه الذي لم تزل في كنف حمايته وظل تربيته فاتركهم وافتراءهم أو وما يفترونه من أنواع المكايد ولا تبال به فإن لهم في ذلك عقوبات شديدة ولك عواقب حميدة لابتناء مشيئته سبحانه على الحكم البالغة ألبتة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏113‏]‏

‏{‏وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ ‏(‏113‏)‏‏}‏

‏{‏وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ‏}‏ أي إلى زخرف القول، وقيل‏:‏ الضمير للوحي أو للغرور أو للعداوة لأنها بمعنى التعادي، والواو للعطف وما بعدها عطف على ‏{‏غُرُوراً‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 112‏]‏ بناء على أنه مفعول له فيكون علة أخرى للإيحاء وما في البين اعتراض، وإنما لم ينصب لفقد شرط النصب إذ الغرور فعل الموحي وصغو الأفئدة فعل الموحى إليه‏.‏ وهو على الوجهين الأخيرين علة لفعل محذوف يدور عليه المقام أي وليكون ذلك جعلنا ما جعلنا‏.‏ «وأصل الصغو كما قال الراغب الميل يقال‏:‏ صغت الشمس والنجوم صغوا مالت للغروب وصغيتُ الإناء وأصغيته وأصغيت إلى فلان ملت بسمعي نحوه، وحُكِي صغوت إليه أصغو وأصغى صغواً وصُغِيَّاً؛ وقيل‏:‏ صغيت أصغى وأصغيت أُصغي»‏.‏ وفي «القاموس» «صغا يصغو ويصغي صغواً وصغى يصغي صغاً وصغياً مال»‏.‏ وذكر بعض الفضلاء أن هذا الفعل مما جاء واوياً ويائياً فقيل‏:‏ يصغو ويصغى؛ ويقال‏:‏ في مصدره صغيا بالفتح والكسر‏.‏ وزاد الفراء صغياً وصغوا بالياء والواو مشددتين، ويقال‏:‏ إن أصغى مثله‏.‏ والمراد هنا ولتميل إليه‏.‏

‏{‏أَفْئِدَةُ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالاخرة‏}‏ أي على الوجه الواجب‏.‏ وخص عدم إيمانهم بها دون ما عداها من الأمور التي يجب الإيمان بها وهم بها كافرون قال مولانا شيخ الإسلام «إشعاراً بما هو المدار في صغو أفئدتهم إلى ما يلقى إليهم فإن لذات الآخرة محفوفة في هذه النشأة بالمكاره وآلامها مزينة بالشهوات فالذين لا يؤمنون بها وبأحوال ما فيها لا يدرون أن وراء تلك المكاره لذات ودون هذه الشهوات آلاما وإنما ينظرون ما بدا لهم في الدنيا بادي الرأي فهم مضطرون إلى حب الشهوات التي من جملتها مزخرفات الأقاويل ومموهات الأباطيل، وأما المؤمنون بها فحيث كانوا واقفين على حقيقة الحال ناظرين إلى عواقب الأمور لم يتصور منهم الميل إلى تلك المزخرفات لعلمهم ببطلانها ووخامة عاقبتها» اه‏.‏

والآية حجة على المعتزلة في وجه‏.‏ وأجاب الكعبي بأن اللام للعاقبة وليست للتعليل بوجه وهو خلاف الظاهر‏.‏ وقال غيره‏:‏ إنها لام القسم كسرت لما لم يؤكد الفعل بالنون‏.‏ واعترض بأن النون حذفت ولام القسم باقية على فتحها كقوله‏:‏ لئن تكن قد ضاقت على بيوتكم *** ليعلم ربي أن بيتي واسع

بفتح لام ليعلم، نعم حُكِي عن بعض العرب كسر لام جواب القسم الداخلة على المضارع كقوله‏:‏ لتغني عن ذا إنائك أجمعا *** وهو غير مجمع عليه أيضاً فإن أناساً أنكروا ورود ذلك، وجعلوا اللام في البيت للتعليل والجواب محذوف أي لتشربن لتغني عني‏.‏ واستشهد الأخفش بالبيت على إجابة القسم بلام كي‏.‏ وقال الرضي‏:‏ لا يجوز عند البصريين في جواب القسم الاكتفاء بلام الجواب عن نون التوكيد إلا في الضرورة‏.‏

وعن الجبائي أن اللام هنا لام الأمر، والمراد منه التهديد أو التخلية واستعمال الأمر في ذلك كثير‏.‏

واعترض بأنها لو كانت لام الأمر لحذف حرف العلة‏.‏ وأجيب بأن حرف العلة قد يثبت في مثله كما خرج عليه قراءة ‏{‏أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً نَخُوضُ وَنَلْعَبُ‏}‏ و‏{‏إِنَّهُ مِنَ يَتَّقِى وَيِصْبِرْ‏}‏ فليكن هذا كذلك‏.‏ ويؤيد أنها لام الأمر أنه قرىء بحذف حرف العلة‏.‏ وقرأ الحسن بتسكين اللام في هذا وفي الفعلين بعده‏.‏ فدعوى إن ضعف كونها للأمر أظهر من ضعف الوجهين الأولين غير ظاهرة‏.‏

واستدل أصحابنا بإسناد الصغو إلى الأفئدة على أن البنية ليست شرطاً للحياة فالحي عندهم هو الجزء الذي قامت به الحياة، والعالم هو الجزء الذي قام به العلم، وقالت المعتزلة‏:‏ الحي والعالم هو الجملة لا ذلك الجزء، والإسناد هنا مجازي2‏.‏

‏{‏وَلِيَرْضَوْهُ‏}‏ لأنفسهم بعدما مالت إليه أفئدتهم ‏{‏وَلِيَقْتَرِفُواْ‏}‏ أي ليكتسبوا، قال الراغب‏:‏ «أصل القرف والإقتراف قشر اللحاء عن الشجرة والجليدة عن الجرح وما يؤخذ منه قِرَف، واستعير الإقتراف للإكتساب حسناً كان أو سوءاً وفي الإساءة أكثر استعمالاً، ولهذا يقال‏:‏ الإعتراف يزيل الإقتراف، ويقال‏:‏ قرفت فلاناً بكذا إذا عبته به واتهمته؛ وقد حمل على ذلك ما هنا» وفيه بعد‏.‏ ومثله ما نقل عن الزجاج أن المعنى فيه وليختلقوا وليكذبوا ‏{‏مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ‏}‏ أي الذي هم مقترفوه من القبائح التي لا يليق ذكرها‏.‏ وجوز أن تكون ‏{‏مَا‏}‏ موصوفة، والعائد محذوف أيضاً‏.‏ وأن تكون مصدرية فلا حاجة إلى تقدير عائد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏114‏]‏

‏{‏أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ‏(‏114‏)‏‏}‏

‏{‏أَفَغَيْرَ الله أَبْتَغِى حَكَماً‏}‏ كلام مستأنف ‏(‏وارد‏)‏ على إرادة القول‏.‏ والهمزة للإنكار والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي قل لهم يا محمد‏:‏ أأميل إلى زخارف الشياطين أو أعدل عن الطريق المستقيم فأطلب حكماً غير الله تعالى يحكم بيني وبينكم ويفصل المحق منا من المبطل‏.‏ وقيل‏:‏ إن مشركي قريش قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ اجعل بيننا وبينك حكماً من أحبار اليهود أو من أساقفة النصارى ليخبرنا عنك بما في كتابهم من أمرك فنزلت‏.‏ وإسناد الابتغاء المنكر لنفسه الشريفة صلى الله عليه وسلم لا إلى المشركين كما في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَفَغَيْرَ دِينِ الله يَبْغُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 83‏]‏ مع أنهم الباغون لإظهار كمال النصفة أو لمراعاة قولهم‏:‏ اجعل بيننا وبينك حكماً، و‏(‏ غير‏)‏ مفعول ‏{‏أَبْتَغِى‏}‏ و‏{‏حُكْمًا‏}‏ حال منه، وقيل‏:‏ تمييز لما في ‏(‏غير‏)‏ من الإبهام كقولهم‏:‏ إن لنا إبلاً غيرها، وقيل‏:‏ مفعول له؛ وأولى المفعول همزة الاستفهام دون الفعل لأن الإنكار إنما هو في ابتغاء غير الله تعالى حكماً لا في مطلق الابتغاء فكان أولى بالتقديم وأهم، وقيل‏:‏ تقديمه للتخصيص‏.‏ وحمل على أن المراد تخصيص الإنكار لا إنكار التخصيص، وقيل‏:‏ في تقديمه إيماء إلى وجوب تخصيصه تعالى بالابتغاء والرضى بكونه حكماً‏.‏ وجوز أن يكون ‏{‏غَيْرِ‏}‏ حالاً من ‏{‏حُكْمًا‏}‏ وحكماً مفعول ‏{‏أَبْتَغِى‏}‏ والتقديم لكونه مصب الانكار، والحَكَم يقال للواحد والجمع كما قال الراغب، وصرح هو وغيره بأنه أبلغ من الحاكم لا مساو له كما نقل الواحدي عن أهل اللغة، وعلل بأنه صفة مشبهة تفيد ثبوت معناها ولذا لا يوصف به إلا العادل أو من تكرر منه الحكم‏.‏

‏{‏وَهُوَ الذى أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الكتاب‏}‏ جملة حالية مؤكدة للإنكار، ونسبة الإنزال إليهم خاصة مع أن مقتضى المقام إظهار تساوي نسبته إلى المتحاكمين لاستمالتهم نحو المنزل واستنزالهم إلى قبول حكمه بإيهام قوة نسبته إليهم وقيل‏:‏ لأن ذلك أوفق بصدر الآية بناء على أن المراد بها الانكار عليهم وإن عبر بما عبر إظهاراً للنصفة، ونظير ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا لِىَ لاَ أَعْبُدُ الذى فَطَرَنِى وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 22‏]‏‏.‏ ومعنى الآية عند بعض المحققين أغيره تعالى أبتغي حكماً والحال أنه هو الذي أنزل إليكم الكتاب وأنتم أمة أمية لا تدرون ما تأتون وما تذرون القرآن الناطق بالحق والصواب الحقيق بأن يخص به اسم الكتاب‏.‏

‏{‏مُفَصَّلاً‏}‏ أي مبيناً فيه الحق والباطل والحلال والحرام وغير ذلك من الأحكام بحيث لم يبق في أمر الدين شيء من التخليط والإبهام فأي حاجة بعد ذلك إلى الحكم، ثم قال‏:‏ وهذا كما ترى صريح في أن القرآن الكريم كاف في أمر الدين مغن عن غيره ببيانه وتفصيله؛ وأما أن يكون لإعجازه دخل في ذلك كما قيل فلا انتهى‏.‏

ولا يخفى أن ملاحظة الإعجاز أمر مطلوب على تقدير كون الآية مرتبطة معنى بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَأَقْسَمُواْ بالله‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 109‏]‏ الآية، وبيان ذلك على ما ذكره الإمام أنه سبحانه وتعالى «لما حكى عن الكفار أنهم أقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أتتهم آية ليؤمنن بها أجاب عنه جل شأنه بأنه لا فائدة في إظهار تلك الآيات لأنه تعالى لو أظهرها لبقوا مصرين على كفرهم، ثم إنه تعالى بين في هذه الآية أن الدليل الدال على نبوته عليه الصلاة والسلام قد حصل وكمل فكان ما يطلبونه طلباً للزيادة وذلك مما لا يجب الالتفات إليه، ثم نبه على حصول الدليل من هذه الآية بوجهين، الأول‏:‏ أنه تعالى أنزل إليه الكتاب المفصل المبين المشتمل على العلوم الكثيرة والفصاحة الكاملة وقد عجز الخلق عن معارضته فيكون ظهور هذا المعجز دليلاً على أنه تعالى قد حكم بنبوته، فمعنى الآية قل يا محمد‏:‏ إنكم تتحكمون في طلب سائر المعجزات فهل يجوز في العقل أن يطلب غير الله سبحانه حكماً‏؟‏ فإن كل أحد يقول‏:‏ إن ذلك غير جائز ثم قل‏:‏ إنه تعالى حكم بصحة نبوتي حيث خصني بمثل هذا الكتاب المفصل الكامل البالغ إلى حد الإعجاز‏.‏ الثاني‏:‏ اشتمال التوراة والإنجيل على الآيات الدالة على أنه صلى الله عليه وسلم رسول حق وعلى أن القرآن كتاب حق من عند الله تعالى وهذا هو المراد من الآية بعد» انتهى‏.‏

ووجه بعضهم مدخلية الإعجاز بأنه لا يتم الإلزام إلا بالعلم بكون المنزل من عند الله تعالى وهو يتوقف على الإعجاز بحيث يستغني عن آية أخرى دالة على صدق دعواه عليه الصلاة والسلام أنه من عند الله تعالى لكن قال‏:‏ إن في دلالة النظم الكريم على ذلك خفاء إلا أن يقال‏:‏ الجملة الاسمية الحالية تفيده لما فيها من الدلالة على ثبوته وتقرره في نفسه أو يجعل الكتاب بمعنى المعهود إعجازه، وذكر أن هذا من عدم تدبر الآية إذ المعنى لا أبتغي حكماً في شأني وشأن غيري إلا الله سبحانه الذي نزل الكتاب لذلك، وهو إنما يحكم له صلى الله عليه وسلم بصدق مدعاه بالإعجاز، فإنهم لما طعنوا في نبوته عليه الصلاة والسلام وأقسموا إن جاءتهم آية آمنوا بين سبحانه أنهم مطبوع على قلوبهم وأمره أن يوبخهم وينكر عليهم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَغَيْرَ الله‏}‏ الخ أي أأزيغ عن الطريق السوي فأخص غيره بالحكم وهو الذي أنزل هذا الكتاب المعجز الذي أفحمكم وألزمكم الحجة فكفي به سبحانه حاكماً بيني وبينكم بإنزال هذا الكتاب المفصل بالآيات البينات من التوحيد والنبوة وغيرهما الذي أعجزكم عن آخركم، ويؤول هذا إلى أنه صلى الله عليه وسلم أجابهم بالقول بالموجب لأنهم طعنوا في معجزاته فكبتهم على أحسن وجه وضم إليه علم أهل الكتاب، وعلى هذا فكونه معجزاً مأخوذ من كونه مغنياً عما عداه في شأنه وشأن غيره على ما أشير إليه، وهذا له نوع قرب مما ذكره الإمام وما أشار إليه من ارتباط الآية معنى بما تقدم من قوله تعالى‏:‏

‏{‏وَأَقْسَمُواْ بالله‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 109‏]‏ الخ لا يخلو عن حسن إلا أن دعوى خفاء دلالة النظم الكريم على الإعجاز مما لا خفاء في صحتها عندي، ولم يظهر مما ذكر ما ما يزيل ذلك الخفاء، وكون سوق الآية دليلاً على ملاحظة ذلك غير بعيد عن المأخذ الذي سمعته فتدبر‏.‏ ومن الناس من قال‏:‏ يحتمل أن يراد بالكتاب التوراة أي إنه تعالى حكم بيني وبينكم بما أنزل فيه مفصلاً حيث أخبركم بنبوتي وفصل فيه علاماتي وهو كما ترى، والحق ما تقدم‏.‏

‏{‏والذين ءاتيناهم الكتاب يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مّن رَّبّكَ بالحق‏}‏ كلام مستأنف غير داخل تحت القول المقدر مسوق من جهته تعالى لتحقيق حقية الكتاب الذي نيط بإنزاله أمر الحكمية وتقرير كونه منزلاً من عنده عز وجل، وليس المراد منه الاستدلال على ثبوت نبوته صلى الله عليه وسلم كما يلوح من كلام الإمام، والمراد بالكتاب التوراة والإنجيل، والتعبير عنهما بذلك للإيماء إلى ما بينهما وبين القرآن من المجانسة المقتضية للاشتراك في الحقية والنزول من عنده تعالى مع ما فيه من الايجاز، والمراد بالموصول إما علماء اليهود والنصارى وإما الفريقان مطلقاً والعلماء داخلون دخولاً أولياً، والإيتاء على الأول التفهيم بالفعل وعلى الثاني أعم منه ومن التفهيم بالقوة، وإيراد الطائفتين بعنوان إيتاء الكتاب للإيذان بأنهم علموا ما علموا من جهة كتابهم، وقيل‏:‏ المراد بالموصول مؤمنو أهل الكتاب‏.‏ وعن عطاء أن المراد بالكتاب القرآن وبالموصول كبراء الصحابة وأهل بدر رضي الله تعالى عنهم أجمعين، ولا يخفى أنه أبعد من الثريا‏.‏ والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام لتشريفه صلى الله عليه وسلم مع الإيذان بأن نزوله من آثار الربوبية‏.‏ و‏{‏مِنْ‏}‏ لابتداء الغاية مجازاً وهي متعلقة بمنزل، والباء للملابسة وهي متعلقة بمحذوف وقع حالاً من الضمير المستكن في ‏{‏مُنَزَّلٌ‏}‏ أي متلبساً بالحق‏.‏ وقرأ غالب السبعة ‏{‏مُنَزَّلٌ‏}‏ بالتخفيف من الإنزال‏.‏ والفرق بين أنزل ونزل قد أشرنا إليه فيما مر وأن الأول دفعي والثاني تدريجي وأنه أكثري، والقراءة بهما تدل على قطع النظر عن الفرق، وليس إشارة إلى المعنيين باعتبار إنزاله إلى السماء الدنيا ثم إنزاله إلى الأرض لأن إنزاله دفعة إلى السماء على ما قيل لا يعلمه أهل الكتاب‏.‏

‏{‏فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين‏}‏ أي المترددين في أنهم يعلمون ذلك لما لا يشاهد منهم آثار العلم وأحكام المعرفة، فالفاء لترتيب النهي على الإخبار بعلم أهل الكتاب أو في أنه منزل من ربك بالحق فليس المراد حقيقة النهي له صلى الله عليه وسلم عن الإمتراء في ذلك بل تهييجه وتحريضه عليه الصلاة والسلام كقوله سبحانه‏:‏

‏{‏وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 14‏]‏ ويحتمل أن يكون الخطاب في الحقيقة للأمة على طريق التعريض وإن كان له عليه الصلاة والسلام صورة، وأن يكون لكل أحد ممن يتصور منه الإمتراء بناء على ما تقرر أن أصل الخطاب أن يكون مع معين وقد يترك لغيره كما في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلَوْ ترى إِذِ المجرمون‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 12‏]‏ والفاء على هذه الأوجه لترتيب النهي على نفس علمهم بحال القرآن‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏115‏]‏

‏{‏وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏115‏)‏‏}‏

‏{‏وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبّكَ‏}‏ شروع في بيان كمال القرآن من حيث ذاته إثر بيان كماله من حيث إضافته إليه عز وجل بكونه منزلاً منه سبحانه بالحق وتحقيق ذلك بعلم أهل الكتابين به، «وتمام الشيء كما قال الراغب انتهاؤه إلى حد لا يحتاج إلى شيء خارج عنه»‏.‏ والمراد بالكلمة وأريد به كما قال قتادة وغيره القرآن، وإطلاقها عليه إما من باب المجاز المرسل أو الاستعارة وعلاقتها تأبى أن تطلق الكلمة على الجملة غير المفيدة وعلاقته لا لكن لم يوجد في كلامهم ذلك الإطلاق، واختير هذا التعبير لما فيه من اللطافة التي لا تخفى على من دقق النظر‏.‏ وقال البعض لما أن الكلمة هي الأصل في الاتصاف بالصدق والعدل وبها تظهر الآثار من الحكم‏.‏ وعن أبي مسلم أن المراد بالكلمة دين الله تعالى كما في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَكَلِمَةُ الله هِىَ العليا‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 40‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بها حجته عز وجل على خلقه والأول هو الظاهر‏.‏ وقرأ بالتوحيد عاصم وحمزة وعلي وخلف وسهل ويعقوب، وقرأ الباقون ‏{‏كلمات رَبَّكَ‏}‏‏.‏

‏{‏صِدْقاً وَعَدْلاً‏}‏ مصدران نصبا على الحال من ‏{‏رَبَّكَ‏}‏ أو من ‏{‏كلمات‏}‏ كما ذهب إليه أبو علي الفارسي‏.‏ وجوز أبو البقاء نصبهما على التمييز وعلى العلة؛ والصدق في الأخبار والمواعيد منها في المشهور والعدل في الأقضية والأحكام ‏{‏لاَ مُبَدّلَ لكلماته‏}‏ استئناف مبين لفضلها على غيرها إثر بيان فضلها في نفسها‏.‏ وقال بعض المحققين‏:‏ إنه سبحانه لما أخبر بتمام كلمته وكان التمام يعقبه النقص غالباً كما قيل‏:‏ إذا تم أمر بدا نقصه *** توقع زوالاً إذا قيل تم

ذكر هذا احتراساً وبياناً لأن تمامها ليس كتمام غيرها‏.‏ وجوز أن يكون حالاً من فاعل ‏{‏تَمُتْ‏}‏ على أن الظاهر مغن عن الضمير الرابط‏.‏ قال أبو البقاء‏:‏ ولا يجوز أن يكون حالاً من ربك لئلا يفصل بين الحال وصاحبها بأجنبي وهو ‏{‏صِدْقاً وَعَدْلاً‏}‏ إلا أن يجعلا حالين منه أيضاً‏.‏ والمعنى لا أحد يبدل شيئاً من كلماته بما هو أصدق وأعدل منه ولا بما هو مثله فكيف يتصور ابتغاء حكم غيره تعالى‏.‏ والمراد بالأصدق الأبين والأظهر صدقاً فلا يرد أن الصدق لا يقبل الزيادة والنقص لأن النسبة إن طابقت الواقع فصدق وإلا فكذب‏.‏

وذكر الكرماني في حديث ‏"‏ أصدق الحديث ‏"‏ الخ أنه جعل الحديث كمتكلم فوصف به كما يقال زيد أصدق من غيره والمتكلم يقبل الزيادة والنقص في ذلك، وقيل‏:‏ المعنى لا يقدر أحد أن يحرفها شائعاً كما فعل بالتوراة فيكون هذا ضماناً منه سبحانه بالحفظ كقوله جل وعلا‏:‏ ‏{‏إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لحافظون‏}‏

‏[‏الحجر‏:‏ 9‏]‏ أو لا نبي ولا كتاب بعدها يبدلها وينسخ أحكامها‏.‏ وعيسى عليه السلام يعمل بعد النزول بها لا ينسخ شيئاً كما حقق في محله‏.‏

وقيل‏:‏ المراد إن أحكام الله تعالى لا تقبل التبدل والزوال لأنها أزلية والأزلي لا يزول‏.‏ وزعم الإمام «أن الآية على هذا أحد الأصول القوية في إثبات الجبر لأنه تعالى لما حكم على زيد بالسعادة وعلى عمرو بالشقاوة ثم قال‏:‏ ‏{‏لاَ مُبَدّلَ لكلماته‏}‏ يلزم امتناع أن ينقلب السعيد شقيا والشقي سعيداً فالسعيد من سعد في بطن أمه والشقي من شقي في بطن أمه» وأنا أقول لا يخفى أن الشقي في العلم لا يكون سعيداً والسعيد فيه لا يكون شقياً أصلاً لأن العلم لا يتعلق إلا بما المعلوم عليه في نفسه وحكمه سبحانه تابع لذلك العلم‏.‏ وكذا إيجاده الأشياء على طبق ذلك العلم‏.‏ ولا يتصور هناك جبر بوجه من الوجوه لأنه عز شأنه لم يفض على القوابل إلا ما طلبته منه جل وعلا بلسان استعدادها كما يشير إليه قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أعطى كُلَّ شَىء خَلْقَهُ‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 50‏]‏ نعم يتصور الجبر لو طلبت القوابل شيئاً وأفاض عليها عز شأنه ضده والله سبحانه أجل وأعلى من ذلك‏.‏

‏{‏وَهُوَ السميع‏}‏ لكل ما يتعلق به السمع ‏{‏العليم‏}‏ بكل ما يمكن أن يعلم فيدخل في ذلك أقوال المتحاكمين وأحوالهم الظاهرة والباطنة دخولاً أولياً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏116‏]‏

‏{‏وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ‏(‏116‏)‏‏}‏

«ثم إنه تعالى على ما ذكر الإمام لما أجاب عن سبهات الكفار وبين بالدليل صحة النبوة أرشد إلى أنه بعد زوال الشبهة وظهور الحجة لا ينبغي أن يلتفت العاقل إلى كلمات الجهال فقال سبحانه2‏:‏

‏{‏وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِى الارض يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ الله‏}‏ وقال شيخ الإسلام‏:‏ إنه لما تحقق اختصاصه تعالى بالحكمية لاستقلاله بما يوجب ذلك من إنزال الكتاب ‏(‏الكامل‏)‏ الفاصل بين الحق والباطل وتمام صدق كلامه وكمال عدله في أحكامه وامتناع وجود من يبدل شيئاً منها واستبداده سبحانه بالإحاطة التامة بجميع الموسوعات والمعلومات عقب ذلك ببيان أن الكفرة متصفون بنقائض تلك الكمالات من النقائص التي هي الضلال والإضلال واتباع الظنون الفاسدة الناشىء من الجهل والكذب على الله تعالى إبانة لكمال مباينة حالهم لما يرومونه وتحذيراً عن الركون إليهم والعمل بآرائهم فقال سبحانه ما قال‏.‏ ويحتمل أن يكون هذا من باب الإرشاد إلى اتباع القرآن والتمسك به بعد بيان كماله على أكمل وجه خطاب له صلى الله عليه وسلم ولأمته‏.‏

وقيل‏:‏ خوطب عليه الصلاة والسلام وأريد غيره‏.‏ والمراد بمن في الأرض الناس وبأكثرهم الكفار وقيل‏:‏ ما يعمهم وغيرهم من الجهال واتباع الهوى‏.‏ وقيل‏:‏ أهل مكة والأرض أرضها وأكثر أهلها كانوا حينئذ كفاراً‏.‏ ومن الناس من زعم أن هذا نهى في المعنى عن متابعة غير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إذ هم والكرام قليل أقل الناس عدداً‏.‏ وقد قال سبحانه‏:‏ ‏{‏فَبِهُدَاهُمُ اقتده‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 90‏]‏ وهو كما ترى‏.‏ ومثله احتمال أنه نهى عن متابعة غير الله سبحانه لأنه لو أطيع أكثر من في الأرض لأضلوا فضلاً عن إطاعة قليل أو واحد منهم‏.‏ والمعنى إن تطع أحداً من الكفار بمخالفة ما شرع لك وأودعه كلماته المنزلة من عنده إليك يضلوك عن الحق أو إن تطع الكفار بأن جعلت منهم حكما يضلوك عن الطريق الموصل إليه أو عن الشريعة التي شرعها لعباده‏.‏

‏{‏إِن يَتَّبِعُونَ‏}‏ أي ما يتبعون فيما هم عليه من الشرك والضلال ‏{‏إِلاَّ الظن‏}‏ وإن الظن فيما يتعلق بالله تعالى لا يغني من الحق شيئاً ولا يكفي هناك إلا العلم وأنى لهم به، وهذا بخلاف سائر الأحكام وأسبابها مثلاً فإنه لا يشترط فيها العلم وإلا لفات معظم المصالح الدنيوية والأخروية، «والفرق بينهما على ما قاله العز بن عبد السلام في «قواعده الكبرى» أن الظان مجوز لخلاف مظنونه فإذا ظن صفة من صفات الإله عز شأنه فإنه يجوز نقيضها وهو نقص ولا يجوز ‏(‏تجويز‏)‏ النقص عليه سبحانه ‏(‏لأن الظن لا يمنع من تجويز نقيض المظنون‏)‏ بخلاف الأحكام فإنه لو ظن الحلال حراماً أو الحرام حلالاً لم يكن في ذلك تجويز نقص على الرب جل شأنه لأنه سبحانه لو أحل الحرام وحرم الحلال لم يكن ذلك نقصاً عليه عز وجل فدار تجويزه بين أمرين كل ‏(‏واحد‏)‏ منهما كمال بخلاف الصفات»‏.‏

وقال غير واحد‏:‏ المراد ما يتبعون إلا ظنهم أن آباءهم كانوا على الحق وجهالاتهم وآراءهم الباطلة، ويراد من الظن ما يقابل العلم أي الجهل فليس في الآية دليل على عدم جواز العمل بالظن مطلقاً فلا متمسك لنفاة القياس بها، والإمام بعد أن قرر وجه استدلالهم قال‏:‏ «والجواب لم لا يجوز أن يقال‏:‏ الظن عبارة عن الاعتقاد الراجح إذا لم يستند إلى أمارة وهو مثل ‏(‏ظن‏)‏ الكفار أما إذا كان الاعتقاد الراجح مستنداً إليها فلا يسمى ظناً» وهو كما ترى‏.‏

‏{‏وَإِنْ هُمْ‏}‏ أي وما هم ‏{‏إِلاَّ يَخْرُصُونَ‏}‏ أي يكذبون‏.‏ وأصل الخرص القول بالظن وقول من لا يستيقن ويتحقق كما قال الأزهري، ومنه خرص النخل خرصاً بفتح الخاء وهي خرص بالكسر أي مخروصة، والمراد أن شأن هؤلاء الكذب وهم مستمرون على تجدده منهم مرة بعد مرة مع ما هم عليه من اتباع الظن في شأن خالقهم عز شأنه وقال الإمام‏:‏ «المراد أن هؤلاء الكفار الذين ينازعونك في دينك ومذهبك غير قاطعين بصحة مذاهبهم بل لا يتبعون إلا الظن وهم خراصون كاذبون في ادعاء القطع»؛ ولا يخفى بعد تقييد الكذب بادعاء القطع‏.‏ وقال غير واحد‏:‏ المراد أنهم يكذبون على الله تعالى فيما ينسبون إليه جل شأنه كاتخاذ الولد وجعل عبادة الأوثان ذريعة إليه سبحانه وتحليل الميتة و‏(‏ تحريم‏)‏ البحائر ونظير ذلك‏.‏ ولعل ما ذهبنا إليه أولى وأبلغ في الذم، ويحتمل أن يكون المراد أن هؤلاء الكفار يتبعون في أمور دينهم ظن أسلافهم وأن شأنهم أنفسهم الظن أيضاً، وحاصل ذلك ذمهم بفسادهم وفساد أصولهم إلا أن ذلك بعيد جداً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏117‏]‏

‏{‏إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ‏(‏117‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين‏}‏ تقرير كما قال بعض المحققين لمضمون الشرطية وما بعدها وتأكيد لما يفيده من التحذير أي هو أعلم بالفريقين فاحذر أن تكون من الأولين‏.‏ و‏{‏مِنْ‏}‏ موصولة أو موصوفة في محل النصب على المفعولية بفعل دل عليه ‏{‏أَعْلَمُ‏}‏ كما ذهب إليه الفارسي أي يعلم لا به فإن أفعل لا ينصب الظاهر فيما إذا أريد به التفضيل على الصحيح خلافاً لبعض الكوفيين لأنه ضعيف لا يعمل عمل فعله، وإذا جرد لمعنى اسم الفاعل، فمنهم من جوز نصبه كما صرح به في «التسهيل»، وحينئذ يؤتى بمفعوله مجروراً بالباء أو اللام‏.‏ ومن الناس من ادعى أن الباء هنا مقدرة ليتطابق طرفا الآية‏.‏ ولا يجوز أن يكون أفعل مضافاً إلى ‏(‏من‏)‏ لفساد المعنى‏.‏

وجوز أن تكون إستفهامية مبتدأ والخبر ‏{‏يُضِلَّ‏}‏ والجملة معلق عنها الفعل المقدر، وإلى هذا ذهب الزجاج‏.‏ ولا يخفى ما في التعبير في جانب الفريق الأول بما عبر به وفي جانب الفريق الثاني بالمهتدين مع عدم بيان ما اهتدوا إليه من الإعتناء بشأن الآخرين ومزيد التفرقة بينهم وبين الأولين‏.‏ وقرىء ‏{‏مَن يَضِلُّ‏}‏ بضم الياء على أن «من» مفعول لما أشير إليه من الفعل المقدر وفاعل ‏{‏يُضِلَّ‏}‏ ضمير راجع إليه ومفعوله محذوف أي يعلم من يضل الناس فيكون تأكيداً للتحذير عن طاعة الكفرة، وجوز أن تكون مجرورة بالإضافة أي أعلم المضلين من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَن يُضْلِلِ الله‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 186‏]‏ أو من قولك‏:‏ أضللته إذا وجدته ضالاً كأحمدته إذا وجدته محموداً، وأن تكون إستفهامية معلقاً عنها الفعل أيضاً، وأن يكون فاعل ‏{‏يُضِلَّ‏}‏ ضمير الله تعالى، و‏(‏ من‏)‏ منصوبة بما ذكر من الفعل المقدر أن يعلم من يضله الله تعالى، قيل‏:‏ وكان الظاهر أن يقال‏:‏ بالمهديين‏.‏ وكأنه وجه العدول عنه الإشارة إلى أن الهداية صفة سابقة ثابتة لهم في أنفسهم كأنها غير محتاجة إلى جعل لقوله عليه الصلاة والسلام «كل مولود يولد على الفطرة» بخلاف الضلال فإنه أمر طار أوجده فيهم فتأمل‏.‏ والتفضيل في العلم إما بالنظر إلى المعلومات فإنها غير متناهية أو إلى وجوه العلم التي يمكن تعلقه بها، وإما باعتبار الكيفية وهي لزوم العلم له سبحانه أو كونه بالذات لا بالغير‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏118‏]‏

‏{‏فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآَيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ ‏(‏118‏)‏‏}‏

‏{‏فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسم الله عَلَيْهِ‏}‏ أمر مترتب على النهي عن اتباع المضلين الذين من جملة إضلالهم تحليل الحرام وتحريم الحلال، فقد ذكر الواحدي أن المشركين قالوا‏:‏ يا محمد أخبرنا عن الشاة إذا ماتت من قبلها فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ الله تعالى قتلها قالوا‏:‏ فتزعم أن ما قتلت أنت وأصحابك حلال وما قتل الصقر والكلب حلال وما قتله الله تعالى حرام فأنزل الله تعالى هذه الآية، وقال عكرمة‏:‏ إن المجوس من أهل فارس لما أنزل الله تعالى تحريم الميتة كتبوا إلى مشركي قريش وكانوا أولياءهم في الجاهلية وكانت بينهم مكاتبة أن محمداً عليه الصلاة والسلام وأصحابه يزعمون أنهم يتبعون أمر الله تعالى ثم يزعمون أن ما ذبحوا فهو حلال وما ذبح الله تعالى فهو حرام فوقع في أنفس ناس من المسلمين من ذلك شيء فأنزل سبحانه لآية وأخرج أبو داود والترمذي وحسنه وجماعة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال‏:‏ جاءت اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ أنأكل مما قتلنا ولا نأكل مما يقتل الله تعالى فأنزل الله تعالى الآية، والمعنى على ما ذهب إليه غير واحد‏:‏ كلوا مما ذكر اسم الله تعالى على ذبحه لا مما ذكر عليه اسم غيره خاصة أو مع اسمه عز اسمه أو مات حتف انفه، والحصر كما قيل مستفاد من عدم اتباع المضلين ومن الشرط ولولا ذلك لكان هذا الكلام متعرضاً لما لا يحتاج إليه ساكتاً عما يحتاج إليه، وادعى بعضهم أن لا حصر واستفادة عدم حل ما مات حتف أنفه من صريح النظم أعنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا‏}‏ الخ وهو مخالف لما عليه الجمهور‏.‏

‏{‏إِن كُنتُم بآياته‏}‏ التي من جملتها الآيات الواردة في هذا الشأن ‏{‏مُّؤْمِنِينَ‏}‏ فإن الإيمان بها يقتضي استباحة ما أحل الله تعالى واجتناب ما حرم، وقيل‏:‏ المعنى إن صرتم عالمين حقائق الأمور التي هذا الأمر من جملتها بسبب إيمانكم، وقيل‏:‏ المراد إن كنتم متصفين بالإيمان وعلى يقين منه فإن التصديق يختلف ظناً وتقليداً وتحقيقاً، والجار والمجرور متعلق بما بعده وقدم رعاية للفواصل؛ وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏119‏]‏

‏{‏وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ ‏(‏119‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسم الله عَلَيْهِ‏}‏ إنكار لأن يكون لهم شيء يدعوهم إلى الاجتناب عن أكل ما ذكر اسم الله تعالى عليه، فما للاستفهام الإنكاري وليست نافية كما قيل وهي مبتدأ و‏{‏لَكُمْ‏}‏ الخبر وأن تأكلوا بتقدير حرف الجر أي في أن تأكلوا، والخلاف في محل المنسبك بعد الحذف مشهور‏.‏ وجوز أن يكون ذلك حالا، ورد بأن المصدر المؤول من أن والفعل لا يقع حالا كما صرح به سيبويه لأنه معرفة ولأنه مصدر بعلامة حرف الاستقبال المنافية للحالية إلا أن يؤول بنكرة أو يقدر مضاف أي ذوي أن لا تأكلوا ومقعول ‏{‏تَأْكُلُواْ‏}‏ كما قال أبو البقاء‏:‏ محذوف أي شيئاً مما الخ، قيل‏:‏ وظاهر الآية مشعر بأنه يجوز الأكل مما ذكر اسم الله تعالى عليه وغيره معا وليست من التبعيضية لإخراجه بل لإخراج ما لم يؤكل كالروث والدم وهو خارج بالحصر السابق فلا تغفل، وسبب نزول الآية على ما قاله الإمام أبو منصور أن المسلمين كانوا يتحرجون من أكل الطيبات تقشفاً ونزهداً فنزلت‏.‏

‏{‏وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ‏}‏ بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُل لا أَجِدُ فِيمَا *أُوْحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمًا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 145‏]‏ الآية فبقي ما عدا ذلك على الحل، وقيل بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة والدم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 3‏]‏ واعترضه الإمام بأن سورة المائدة من أواخر ما نزل بالمدينة وهذه مكية كما علمت فلا يتأتى ذلك وأما التأخر في التلاوة فلا يوجب التأخر في النزول فلا يضر تأخر ‏{‏قُل لا أَجِدُ‏}‏ الخ عن هذه الآية في هذه السورة، وقيل‏:‏ التفصيل بوحي غير متلو، والجملة حالية مؤكدة للإنكار السابق‏.‏ قرأ أهل الكوفة غير حفص «فصل‏.‏‏.‏‏.‏ ما حرم» ببناء الأول للفاعل والثاني للمفعول‏.‏ وقرأ أهل المدينة وحفص ويعقوب وسهل «فصل» «وحرم» كليهما بالبناء للفاعل‏.‏ وقرأهما الباقون بالبناء للمفعول‏.‏

‏{‏إِلاَّ مَا اضطررتم إِلَيْهِ‏}‏ أي دعتكم الضرورة إلى أكله بسبب شدة المجاعة، وظاهر تقرير الزمخشري كما قال العلامة الثاني يقتضي أن ‏(‏ما‏)‏ موصولة فلا يستقيم غير جعل الاستثناء منقطعاً أي لكن الذي اضطررتم إلى أكله مما هو حرام عليكم حلال لكم حال الضرورة، وجوز عليه الرحمة جعله استثناء من ضمير «حرم» و‏(‏ ما‏)‏ مصدرية في معنى المدة أي فصل لكم الأشياء التي حرمت عليكم إلا وقت الاضطرار إليها، واعترض بأنه لا يصح حينئذ الاستثناء من الضمير بل هو استثناء مفرغ من الظرف العام المقدر كأنه قيل‏:‏ حرمت عليكم كل وقت إلا وقت الخ، ومن الناس من أورد هنا شيئاً لا أظنه مما يضطر إليه حيث قال بعد كلام‏:‏ والمهم في هذا المقام بيان فائدة ‏{‏إِلاَّ مَا اضطررتم‏}‏، وقد أعني عنه قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ‏}‏ لأن تفصيل ما حرم يتضمن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلاَّ مَا اضطررتم إِلَيْهِ‏}‏ وكأن الفائدة فيه والله تعالى أعلم المبالغة في النهي عن الإمتناع عن الأكل بأن ما حرم يصير مما لا يؤكل بخلاف ما حل فإنه لا يصير مما لا يؤكل فكيف يجتنب عما يؤكل فتأمل‏.‏

‏{‏وَإِنَّ كَثِيرًا‏}‏ من الكفار ‏{‏لَّيُضِلُّونَ‏}‏ الناس بتحريم الحلال وتحليل الحرام كعمرو بن لحي وأضرابه الذين اتخذوا البحائر والسوائب وأحلوا أكل الميتة، وعن الزجاج إن المراد بهذا الكثير الذين ناظروا في الميتة‏.‏ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب ‏{‏لَّيُضِلُّونَ‏}‏ بفتح الياء ‏{‏بِأَهْوَائِهِم‏}‏ الزائغة وشهواتهم الباطلة ‏{‏بِغَيْرِ عِلْمٍ‏}‏ مقتبس من الشريعة مستند إلى الوحي أو بغير علم أصلا كما قيل وذكر ذلك للإيذان بأن ما هم عليه محض هوى وشهوة، وجوز أن يكون من قبيل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَقْتُلُونَ الانبياء بِغَيْرِ حَقّ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 112‏]‏‏.‏

‏{‏إِنَّ رَّبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بالمعتدين‏}‏ المتجاوزين ‏(‏لحدود‏)‏ الحق إلى الباطل والحلال إلى الحرام فيجازيهم على ذلك، ولعل المراد بهم هذا الكثير، ووضع الظاهر موضع ضميرهم لوسمهم بصفة الإعتداء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏120‏]‏

‏{‏وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ ‏(‏120‏)‏‏}‏

‏{‏وَذَرُواْ ظاهر الإثم وَبَاطِنَهُ‏}‏ أي ما يعلن وما يسر كما قال مجاهد وقتادة والربيع بن أنس أو ما بالجوارح وما بالقلب كما قاله الجبائي أو نكاح ما نكح الآباء ونحوه والزنا بالأجنبيات كما روي عن ابن جبير أو الزنا في الحوانيت واتخاذ الأخدان كما روى عن الضحاك والسدي وقد روي أن أهل الجاهلية كانوا يرون أن الزنا إذا ظهر كان إثماً وإذا استسر به صاحبه فلا إثم فيه‏.‏ قال الطيبي‏:‏ وهو على هذا الوجه مقصود بالعطف مسبب عن عدم الإتباع، وعلى الأول معترض توكيداً لقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَكُلُواْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 118‏]‏ أولاً و‏{‏لاَ تَأْكُلُواْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 121‏]‏ ثانياً وهو الوجه، ولعل الأمر على الوجه الذي قبله مثله‏.‏ ‏{‏إِنَّ الذين يَكْسِبُونَ الإثم‏}‏ أي يعملون المعاصي التي فيها الإثم ويرتكبون القبائح الظاهرة أو الباطنة ‏{‏سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ‏}‏ أي يكسبون من الإثم كائناً ما كان فلا بد من اجتناب ذلك، والجملة تعليل للأمر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏121‏]‏

‏{‏وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ‏(‏121‏)‏‏}‏

‏{‏وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ‏}‏ أي من الحيوان كما هو المتبادر، والآية ظاهرة في تحريم متروك التسمية، عمداً كان أو نسياناً، وإليه ذهب داود‏.‏ وعن أحمد والحسن وابن سيرين والجبائي مثله، وقال الشافعي بخلافه لما رواه أبو داود وعبد بن حميد عن راشد بن سعد مرسلا ذبيحة المسلم حلال ذكر اسم الله تعالى أو لم يذكر»‏.‏ وعن مالك وهي الرواية المعول عليها عند أئمة مذهبه أن متروك التسمية عمدا لا يؤكل سواء كان تهاوناً أو غير تهاون، ولأشهب قول شاذ بجواز غير المتهاون في ترك التسمية عليه‏.‏ وزعم بعضهم أن مذهب مالك كمذهب الشافعي، وآخرون أنه كمذهب داود ومن معه، وما ذكرناه هو الموجود في «كتب المالكية» وأهل مكة أدري بشعابها‏.‏ ومذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه التفرقة بين العمد والنسيان كالصحيح من مذهب مالك، قال العلامة الثاني‏:‏ إن الناسي على مذهب الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه ليس بتارك للتسمية بل هي في قلبه على ما روي أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن متروك التسمية ناسياً فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏"‏ كلوه فإن تسمية الله تعالى في قلب كل مسلم ‏"‏ ولم يلحق به العامد إما لامتناع تخصيص الكتاب بالقياس وإن كان منصوص العلة، وإما لأنه ترك التسمية عمداً فكأنه نفى ما في قلبه، واعترض بأن تخصيص العام الذي خص منه البعض جائز بالقياس المنصوص العلة وفاقاً وبأنا لا نسلم أن التارك عمدا بمنزلة النافي لما في قلبه بل ربما يكون لوثوقه بذلك وعدم افتقاره لذكره، ثم قال‏:‏ فذهبوا إلى أن الناسي خارج بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ‏}‏ إذ الضمير عائد إلى المصدر المأخوذ من مضمون ‏{‏لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ‏}‏ وهو الترك لكونه الأقرب، ومعلوم أن الترك نسياناً ليس بفسق لعدم تكليف الناسي والمؤاخذة عليه فيتعين العمد‏.‏

واعترض ما ذكر بأن كون ذلك فسقاً لا سيما على وجه التحقيق والتأكيد خلاف الظاهر ولم يذهب إليه أحد ولا يلائم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 145‏]‏ مع أن القرآن يفسر بعضه بعضاً سيما في حكم واحد وبأن ما لم يذكر اسم الله عليه يتناول الميتة مع القطع بأن ترك التسيمة عليها ليس بفسق، وبعضهم أرجع الضمير إلى ‏(‏ما‏)‏ بمعنى الذبيحة وجعلها عين الفسق على سبيل المبالغة لكن لا بد من ملاحظة كونها متروكة التسمية عمداً إذ لا فسق في النسيان وحينئذ لا يصح الحمل أيضاً ومما تقدم يعلم ما فيه‏.‏

وذكر العلامة للشافعي في دعوى حل متروك التسمية عمداً أو نسياناً وحرمة ما ذبح على النصب أو مات حتف أنفه وجوهاً الأول أن التسمية على ذكر المؤمن وفي قلبه ما دام مؤمناً فلا يتحقق منه عدم الذكر فلا يحرم من ذبيحته إلا ما أهل به لغير الله تعالى‏.‏

الثاني‏:‏ أن قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ‏}‏ على وجه التحقيق والتأكيد لا يصح في حق أكل ما لم يذكر اسم الله تعالى عليه عمداً كان أو سهواً إذ لا فسق بفعل ما هو محل الاجتهاد‏.‏ الثالث‏:‏ أن هذه الجملة في موقع الحال إذ لا يحسن عطف الخبر على الإنشاء، وقد بين الفسق بقوله عز شأنه‏:‏ ‏{‏أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ‏}‏ فيكون النهي عن الأكل مقيد بكون ما لم يذكر اسم الله تعالى عليه قد أهل به لغير الله تعالى فيحل ما ليس كذلك إما بطريق مفهوم المخالفة وإما بحكم الأصل، وإما بالعمومات الواردة في حل الأطعمة‏.‏ وهذا خلاصة ما ذكره الإمام في مجلس تذكير عقده له سلطان خوارزم فيها بمحضر منه ومن جلة الأئمة الحنفية‏.‏ وعليه لا حاجة للشافعية إلى دليل خارجي في تخصيص الآية‏.‏ واعترض بأنه يقتضي أن لا يتناول النهي أكل الميتة مع أنه سبب النزول، وبأن التأكيد بإن‏.‏ واللام ينفي كون الجملة حالية لأنه إنما يحسن فيما قصد الإعلام بتحققه ألبتة والرد على منكر تحقيقاً أو تقديراً على ما بين في علم المعاني والحال الواقع في الأمر والنهي مبناه على التقدير كأنه قيل‏:‏ لا تأكلوا منه إن كان فسقاً فلا يحسن وإنه لفسق بل وهو فسق‏.‏ ومن هنا ذهب كثير إلى أن الجملة مستأنفة‏.‏

وأجيب عن الأول بأنه دخل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ‏}‏ ما أهل به لغير الله وبقوله جل شأنه‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ الشياطين‏}‏ الخ الميتة فيتحقق قولهم‏:‏ إن النهي مخصوص بما أهل به لغير الله تعالى أو مات حتف أنفه‏.‏ وأجاب العلامة عن الثاني بأنه لما كان المراد بالفسق ههنا الإهلال لغير الله تعالى كان التأكيد مناسباً كأنه قيل‏:‏ لا تأكلوا منه إذا كان هذا النوع من الفسق الذي الحكم به متحقق والمشركون ينكرونه، ومنهم من تأول الآية بالميتة لأن الجدال فيها كما ستعلم قريباً إن شاء الله تعالى‏.‏ واستظهر رجوع الضمير إلى الأكل الذي دل عليه ‏{‏وَلاَ تَأْكُلُواْ‏}‏ والذي يلوح من كلام بعض المحققين أن ما لم يذكر اسم الله عليه عام لما أهل به لغير الله تعالى ولمتروك التسمية عمداً أو سهواً ولما مات حتف أنفه لأنه سبب نزول الآية‏.‏ والتحقيق أن العام الظاهر متى ورد على سبب خاص كان نصاً في السبب ظاهراً باقياً على ظهوره فيما عداه‏.‏ وأنه لا بد لمبيح منسى التسمية من مخصص وهو الخبر المشتمل على السؤال والجواب وادعى أن هذا عند التحقيق ليس بتخصيص بل منع لاندراج المنسي في العموم مستند بالحديث المذكور‏.‏

ويؤيد بأن العام الوارد على سبب خاص وإن قوي تناوله للسبب حتى ينتهض الظاهر فيه نصاً إلا أنه ضعيف التناول لما عداه حتى ينحط عن أعالي الظواهر فيه ويكتفي من معارضة ما لا يكتفي به منه لولا السبب انتهى‏.‏ ولا يخفى ما فيه لمن أحاط خبراً بما ذكره العلامة قبل‏.‏

وذكر كثير من أصحابنا أن قول الشافعي عليه الرحمة مخالف للإجماع إذ لا خلاف فيمن كان قبله في حرمة متروك التسمية عامداً وإنما الخلاف بينهم في متروكها ناسياً فمذهب ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه يحرم ومذهب علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس رضي الله عنهما أنه يحل ولم يختلفوا في حرمة متروك التسمية عامداً ولهذا قال أبو يوسف والمشايخ رحمهم الله تعالى‏:‏ إن متروك التسمية عامداً لا يسع فيه الاجتهاد ولو قضى القاضي بجواز بيعه لا ينفذ لكونه مخالفاً للإجماع وإن ظاهر الآية يقتضي شمولها لمتروك التسمية نسياناً إلا أن الشرع جعل الناسي ذاكراً لعذر من جهته وفي ذلك رفع للحرج فإن الإنسان كثير النسيان‏.‏ وقول بعض الشافعية عليهم الرحمة‏:‏ إن التسمية لو كانت شرطاً للحل لما سقط بعذر النسيان كالطهارة في باب الصلاة مفض إلى التسوية بين العمد والنسيان، وهي معهودة فيما إذا كان على الناسي هيئة مذكرة كالأكل في الصلاة والجماع في الإحرام لا فيما إذا لم يكن كالأكل في الصيام، وهنا إن لم تكن هيئة توجب النسيان وهي ما يحصل للذابح عند زهوق روح حيوان من تغير الحال فليس هيئة مذكرة بموجودة‏.‏

والحق عندي أن المسألة اجتهادية وثبوت الإجماع غير مسلم ولو كان ما كان خرقه الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، واستدلاله على مدعاه على ما سمعت لا يخلو عن متانة، وقول الأصفهاني كما في «المستصفى» أفحش الشافعي حيث خالف سبع آيات من القرآن ثلاث منها في سورة الأنعام، الأولى‏:‏ ‏(‏118‏)‏ ‏{‏فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسم الله عَلَيْهِ‏}‏ والثانية‏:‏ ‏(‏119‏)‏ ‏{‏وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسم الله عَلَيْهِ‏}‏ والثالثة‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ‏}‏ وثلاث في سورة الحج، الأولى‏:‏ ‏(‏82‏)‏ ‏{‏لّيَشْهَدُواْ منافع لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ اسم الله فِى أَيَّامٍ معلومات على مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ الانعام‏}‏ والثانية‏:‏ ‏(‏43‏)‏ ‏{‏وَلِكُلّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لّيَذْكُرُواْ اسم الله‏}‏ والثالثة‏:‏ ‏(‏63‏)‏ ‏{‏والبدن جعلناها لَكُمْ مّن شعائر الله لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فاذكروا اسم الله عَلَيْهَا صَوَافَّ‏}‏ وآية ‏(‏4‏)‏ في المائدة ‏{‏فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ واذكروا اسم الله عَلَيْهِ‏}‏ من الفحش في حق هذا الإمام القرشي، ومثاره عدم الوقوف على فضله وسعة علمه ودقة نظره، وبالجملة الكلام في الآية واسع المجال وبها استدل كل من أصحاب هاتيك الأقوال‏.‏

وعن عطاء وطاوس أنهما استدلا بظاهرها على أن متروك التسمية حيواناً كان أو غيره حرام، وسبب النزول يؤيد خلاف ذلك كما علمت والاحتياط لا يخفى‏.‏ ‏{‏وَإِنَّ الشياطين‏}‏ أي إبليس وجنوده ‏{‏لَيُوحُونَ‏}‏ أي يوسوسون ‏{‏إلى أَوْلِيَائِهِمْ‏}‏ الذين اتبعوهم من المشركين قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقيل‏:‏ المراد بالشياطين مردة المجوس فإيحاؤهم إلى أوليائهم ما أنهوا إلى قريش حسبما حكيناه عن عكرمة ‏{‏ليجادلوكم‏}‏ أي بالوساوس الشيطانية أو بما نقل من أباطيل المجوس ‏{‏وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ‏}‏ في استحلال الحرام ‏{‏إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ‏}‏ ضرورة أن من ترك طاعة الله تعالى إلى طاعة غيره واستحل الحرام واتبعه في دينه فقد أشركه به تعالى بل آثره عليه سبحانه‏.‏

ونقل الإمام عن الكعبي أنه قال‏:‏ «الآية حجة على أن الإيمان اسم لجميع الطاعات وإن كان معناه في اللغة التصديق كما جعل تعالى الشرك اسماً لكل ما كان مخالفاً لله عز وجل وإن كان في اللة مختصاً بمن يعتقد أن لله تعالى شأنه شريكاً بدليل أنه سبحانه سم طاعة المؤمنين للمشركين في إباحة الميتة شركاً، ثم قال‏:‏ ولقائل أن يقول‏:‏ لم لا يجوز أن يكون المراد من الشرك ههنا اعتقاد أن لله تعالى شريكاً في الحكم والتكليف‏؟‏ وبهذا التقدير يرجع معنى هذا الشرك إلى الاعتقاد فقط» انتهى‏.‏

والظاهر أن التعبير عن هذه الإطاعة بالشرك من باب التغليظ ونظائره كثيرة والكلام هنا كما قال أبو حيان وغيره على تقدير القسم وحذف لام التوطئة أي ولئن أطعتموهم والله أنكم لمشركون وحذف جواب الشرط لسد جواب القسم مسده‏.‏ وجعل أبو البقاء وتبعه بعضهم المذكور جواب الشرط ولا قسم وادعى أن حذف الفاء منه حسن إذا كان الشرط بلفظ الماضي كما هنا واعترض بأن هذا لم يوجد في كتب العربية بل اتفق الكل على وجوب الفاء في الجملة الإسمية ولم يجوزوا تركها إلا في ضرورة الشعر وفيه أن المجرد أجاز ذلك في الاختيار كما ذكره المرادي في «شرح التسهيل2‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏122‏]‏

‏{‏أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏122‏)‏‏}‏

‏{‏أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فأحييناه‏}‏ تمثيل مسوق لتنفير المسلمين عن طاعة المشركين إثر تحذيرهم عنها بالإشارة إلى أنهم مستضيئون بأنوار الوحي الإلهي والمشركون غارقون في ظلمات الكفر والطغيان فكيف يعقل طاعتهم له، فالآية كما قال الطيبي متصلة بقوله سبحانه، ‏{‏وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 121‏]‏ والهمزة للإنكار‏.‏ والواو كما قال غير واحد لعطف الجملة الاسمية على مثلها الذي يدل عليه الكلام أي أأنتم مثلهم ومن كان ميتاً فاعطيناه الحياة ‏{‏وَجَعَلْنَا لَهُ‏}‏ مع ذلك من الخارج ‏{‏نُوراً‏}‏ عظيماً ‏{‏يَمْشِي بِهِ‏}‏ أي بسببه ‏{‏فِى الناس‏}‏ أي فيما بينهما آمنا من جهتهم، والجملة إما استئناف مبني على سؤال نشأ من الكلام كأنه قيل‏:‏ فماذا يصنع بذلك النور‏؟‏ فقيل‏:‏ يمشي الخ أو صفة له‏.‏ و‏(‏ من‏)‏ اسم موصول مبتدأ وما بعده صلته والخبر متعلق الجار والمجرور في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَمَن مَّثَلُهُ‏}‏ أي صفته العجيبة‏.‏ و‏(‏ من‏)‏ فيه اسم موصول أيضاً و‏{‏مّثْلِهِ‏}‏ مبتدأ‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فِى الظلمات‏}‏ خبر هو محذوف‏.‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لَيْسَ بِخَارِجٍ مّنْهَا‏}‏ في موضع الحال من المستكن في الظرف، وهذه الجملة خبر المبتدأ أعني مثله على سبيل الحكاية بمعنى إذا وصف يقال له ذلك، وجملة ‏{‏مّثْلِهِ‏}‏ مع خبره صلة الموصول‏.‏ وإن شئت جعلت ‏(‏من‏)‏ في الموضعين نكرة موصوفة ولم يجوز أن يكون ‏{‏فِى الظلمات‏}‏ خبراً عن ‏{‏مّثْلِهِ‏}‏ لأن الظلمات ليس ظرفاً للمثل‏.‏ وظاهر كلام بعضهم كأبي البقاء أن ‏{‏فِى الظلمات‏}‏ هو الخبر وليس هناك هو مقدراً، ولا يلزم كما نص عليه بعض المحققين حديث الظرفية لأن المراد أن مثله هو كونه في الظلمات والمقصود الحكاية؛ نعم ما ذكر أولاً أولى لأن خبر ‏{‏مّثْلِهِ‏}‏ لا يكون إلا جملة تامة والظرف بغير فاعل ظاهر لا يؤدي مؤدى ذلك‏.‏ وجوز كون جملة ‏{‏لَيْسَ بِخَارِجٍ‏}‏ حالاً من الهاء في ‏{‏مّثْلِهِ‏}‏ ومنعه أبو البقاء للفصل، قيل‏:‏ ولضعف مجيء الحال من المضاف إليه وقرأ نافع ويعقوب ‏{‏مَيْتًا‏}‏ بالتشديد وهو أصل للمخفف والمحذوف من اليائين الثانية المنقلبة عن الواو أعلت بالحذف كما أعلت بالقلب ولا فرق بينهما عند الجمهور‏.‏

«ثم إن هذا الأخير كما قال شيخ الإسلام مثل أريد به من بقي في الضلالة بحيث لا يفارقها أصلاً كما أن الأول مثل أريد به من خلقه الله تعالى على فطرة الإسلام وهداه بالآيات البينات إلى طريق الحق يسلكه كيف شاء لكن لا على أن يدل على كل واحد من هذه المعاني بما يليق به من الألفاظ الواردة في المثلين بواسطة تشبيهه بما يناسبه من معانيها فإن ألفاظ المثل باقية على معانيها الأصلية بل على أنه قد انتزعت من الأمور المتعددة المعتبرة في كل واحد من جانب المثلين هيئة على حدة ومن الأمور المتعددة المذكورة في كل واحد من جانب المثلين هيئة على حدة فشبهت بهما الأولتان ونزلتا منزلتهما فاستعمل فيهما ما يدل على الأخيرتين بضرب من التجوز» إلى آخر ما قال، ونص القطب الرازي على أنهما تمثيلان لا استعارتان، ورد كما قال الشهاب بأن الظاهر بأن من كان ميتاً ومن مثله في الظلمات من قبيل الاستعارة التمثيلية إذ لا ذكر للمشبه صريحاً ولا دلالة بحيث ينافي الاستعارة والاستعارة الأولى بجملتها مشبهة والثانية مشبه به وهذا كما تقول في الاستعارة الإفرادية أيكون الأسد كالثعلب‏؟‏ أي الشجاع كالجبان وهو من بديع المعاني الذي ينبغي أن يتنبه له ويحفظ‏.‏

والتفسير المأثور عن ابن عباس رضي الله عنهما أن المراد بالميت الكافر الضال وبالإحياء الهداية وبالنور القرآن وبالظلمات الكفر والضلالة، والآية على ما أخرج أبو الشيخ عنه نزلت في عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو المراد بمن أحياه الله تعالى وهداه، وأبي جهل بن هشام لعنه الله تعالى وهو المراد بمن مثله في الظلمات ليس بخارج، وروي عن زيد بن أسلم مثل ذلك‏.‏

وفي رواية عن ابن عباس أنها في حمزة وأبي جهل، وعن عكرمة أنها في عمار بن ياسر، وأبي جهل‏.‏ وأيما كان فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فيدخل في ذلك كل من إنقاد لأمر الله تعالى ومن بقى على ضلاله وعتوه ‏{‏كذلك‏}‏ إشارة إلى التزيين المذكور على طرز ما قرر في أمثاله أو إشارة إلى إحياء الشياطين إلى أوليائهم أو إلى تزيين الايمان للمؤمنين ‏{‏زُيّنَ‏}‏ من جهته تعالى خلقا أو من جهة الشياطين وسوسة ‏{‏للكافرين‏}‏ كأبي جهل وأضرابه ‏{‏مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ أي مااستمروا على عمله من فنون الكفر والمعاصي التي من جملتها ما حكى عنهم من القبائح‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏123‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ‏(‏123‏)‏‏}‏

‏{‏وكذلك‏}‏ قيل أي كما جعلنا في مكة أكابر مجرميها ليمكروا فيها ‏{‏جَعَلْنَا فِي كُلّ قَرْيَةٍ‏}‏ من سائر القرى ‏{‏أكابر مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا‏}‏ أو كما جعلنا أعمال أهل مكة مزينة لهم جعلنا في كل قرية ألخ، وإلى الاحتمالين ذهب الامام الرازي‏.‏ وجعل غير واحد جعل بمعنى صير المتعدية لمفعولين‏.‏ واختلف في تعيينهما فقيل‏:‏ ‏{‏أكابر‏}‏ مفعول أول و‏{‏مُجْرِمِيهَا‏}‏ بدل منه، وقيل‏:‏ ‏{‏أكابر‏}‏ مفعول ثان و‏{‏مُجْرِمِيهَا‏}‏ مفعول أول لأنها معرفة فيتعين أنه المبتدأ بحسب الأصل، والتقدير جعلنا في كل قرية مجرميها أكابر فيتعلق الجار والمجرور بالفعل‏.‏

واعترض أبو حيان كون ‏{‏مُجْرِمِيهَا‏}‏ بدلا من ‏{‏أكابر‏}‏ أو مفعول لا بأنه خطأ وذهول عن قاعدة نحوية وهي أن أفعل التفضيل يلزم أفراده وتذكيره إذا كان بمن الظاهر أو مقدره أو مضافا إلى نكرة سواء كان لمفرد مذكر أو لغيره فإن طابق ما هو له تأنيثا وجمعا وتثنيه لزمه أحد الأمرين إما الألف واللام أو الاضافه إلى معرفة و‏{‏أكابر‏}‏ في التخريجين باق على الجمعية وهو غير معرف بأل ولا مضاف لمعرفة وذلك لا يجوز‏.‏ وتعقبه الشهاب فقال‏:‏ إنه غير وارد لأن أكابر وأصاغر أجرى مجرى الأسماء لكونه بمعنى الرؤساء كما نص عليه راغب وما ذكره إنما هو إذا بقى على معناه الأصلي‏.‏ ويؤيده قول ابن عطية‏:‏ انه يقال أكابر كما يقال أحمر وأحامرة كما قال‏:‏ ان الأحامرة الثلاث تعولت *** وإن رده أبو حيان بأنه لم يعلم أن أحداً من أهل اللغة والنحو أجاز في جمع أفضل أفاضلة وفيه نظر‏.‏ وأما الجواب بأنه على حذف المضاف المعرفة للعلم به أي أكابر الناس أو أكابر أهل القرية فلا يخفى ضعفه اه‏.‏ وظاهر كلام الزمخشري أن الظرف لغو و‏{‏أكابر‏}‏ المفعولين مضاف لمجرميها و‏{‏لِيَمْكُرُواْ‏}‏ المفعول الثاني‏.‏

وجوز بعضهم كون جعل متعدياً لواحد على أن المراد بالجعل التمكين بمعنى الإقرار في المكان والإسكان فيه ومفعوله ‏{‏أكابر مُجْرِمِيهَا‏}‏ بالإضافة، ويفهم من كلام البعض أن احتمال الإضافة لا يجري إلا على تفسير جعلناهم بمكناهم ولا يخلو ذلك عن دغدغة‏.‏ وقال العلامة الثاني بعد سرد عدة من الأقوال‏:‏ والذي يقتضيه النظر الصائب أن ‏{‏فِي كُلّ قَرْيَةٍ‏}‏ لغو و‏{‏أكابر مُجْرِمِيهَا‏}‏ مفعول أول و‏{‏لِيَمْكُرُواْ‏}‏ هو الثاني؛ ولا يخفى حسنه بيد أنه مبني على جعل الإشارة لأحد الأمرين اللذين أشير فيما سبق إليهما‏.‏ وناقش في ذلك شيخ الإسلام وادعى أن الأقرب جعل المشار إليه الكفرة المعهودين باعتبار اتصافهم بصفاتهم والإفراد باعتبار الفريق أو المذكور، ومحل الكاف النصب على أنه المفعول الثاني لجعلنا قدم عليه لإفادة التخصيص كما في قوله سبحانه‏:‏

‏{‏كذلك كُنتُمْ مّن قَبْلُ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 94‏]‏ والأول‏:‏ ‏{‏أكابر مُجْرِمِيهَا‏}‏، والظرف لغو أي ومثل أولئك الكفرة الذين هم صناديد مكة ومجرموها جعلنا في كل قرية أكابرها المجرمين أي جعلناهم متصفين بصفات المذكورين مزيناً لهم أعمالهم مصرين على الباطل مجادلين به الحق ليمكروا فيها أي ليفعلوا المكر فيها اه‏.‏ ولا يخفى بعده‏.‏ وتخصيص الأكابر لأنهم أقوى على استتباع الناس والمكر بهم‏.‏ وقرىء ‏{‏أكابر مُجْرِمِيهَا‏}‏ وهذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ‏}‏ اعتراض على سبيل الوعد له عليه الصلاة والسلام والوعيد للكفرة الماكرين أي وما يحيق غائلة مكرهم إلا بهم ‏{‏وَمَا يَشْعُرُونَ‏}‏ حال من ضمير ‏{‏يَمْكُرُونَ‏}‏ أي إنما يمكرون بأنفسهم والحال أنهم ما يشعرون بذلك أصلاً بل يزعمون أنهم يمكرون بغيرهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏124‏]‏

‏{‏وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آَيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ ‏(‏124‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا جَاءتْهُمْ ءايَةٌ‏}‏ رجوع إلى بيان حال مجرمي أهل مكة بعدما بين بطريق التسلية حال غيرهم فإن العظيمة المنقولة إنما صدرت عنهم لا عن سائر المجرمين أي وإذا جاءتهم آية بواسطة الرسول عليه الصلاة والسلام‏.‏ ‏{‏قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حتى نؤتى مِثْلَ مَا أُوتِىَ رُسُلُ الله‏}‏ قال شيخ الإسلام‏:‏ «قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما حتى يوحى إلينا ويأتينا جبريل عليه السلام فيخبرنا أن محمداً عليه الصلاة والسلام صادق كما قالوا ‏{‏أَوْ تَأْتِىَ بالله والملئكة قَبِيلاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 92‏]‏‏.‏ وعن الحسن البصري مثله، وهذا كما ترى صريح في أن ما علق بإيتاء ما أوتي الرسل عليهم السلام هو إيمانهم برسول الله صلى الله عليه وسلم وبما أنزل إليه إيماناً حقيقياً كما هو المتبادر منه عند الإطلاق خلا أنه يستدعي أن يحمل ما أوتي رسل الله على مطلق الوحي ومخاطبة جبريل عليه السلام في الجملة وأن يصرف الرسالة في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ‏}‏ عن ظاهرها وتحمل على رسالة جبريل عليه السلام بالوجه المذكور، ويراد بجعلها تبليغها إلى المرسل إليه لا وضعها في موضعها الذي هو الرسول ليتأتى كونه جواباً عن اقتراحهم ورداً له بأن كون معنى الاقتراح لن نؤمن بكون تلك الآية نازلة من عند الله تعالى إلى الرسول عليه الصلاة والسلام حتى يأتينا جبريل بالذات عياناً كما يأتي الرسل فيخبرنا بذلك، ومعنى الرد الله أعلم بمن يليق بإرسال جبريل عليه السلام إليه لأمر من الأمور إيذاناً بأنهم بمعزل من استحقاق ذلك التشريف، وفيه من التمحل ما لا يخفى2‏.‏

وأنت تعلم أنه لا تمحل في حمل ما أوتي رسل الله على مطلق الوحي بل في العدول عن قول لن نؤمن حتى نجعل رسلاً إلى ما في النظم الكريم نوع تأييد لهذا الحمل، نعم صرف الرسالة عن ظاهرها وحمل الجعل على التبليغ لا يخلو عن بعد، ولعل الأمر فيه سهل‏.‏ ويفهم من كلام البعض أن مطلق الوحي ومخاطبة جبريل عليه السلام في الجملة وإن لم يستدع تلك الرسالة إلا أنه قريب من منصبها فيصلح ما ذكر جواباً بدون حاجة إلى الصرف والحمل المذكورين، وفيه ما فيه‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ نزلت في أبي جهل حين قال‏:‏ زاحمنا بني عبد مناف في الشرف حتى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا‏:‏ منا نبي يوحى إليه والله لا نرضى به ولا نتبعه أبداً حتى يأتينا وحي كما يأتيه‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ سأل كل واحد من القوم أن يخص بالرسالة والوحي كما أخبر الله تعالى عنهم في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امرىء مّنْهُمْ أَن يُؤْتِى *صُحُفاً مُّنَشَّرَةً‏}‏

‏[‏المدثر‏:‏ 52‏]‏ قال الشيخ‏:‏ «ولا يخفى أن كل واحد من هذين القولين وإن كان مناسباً للرد المذكور لكنه يقتضي أن يراد بالإيمان المعلق بإيتاء مثل ما أوتي الرسل مجرد تصديقهم برسالته صلى الله عليه وسلم في الجملة من غير شمول لكافة الناس، وأن يكون كلمة حتى في قول اللعين‏.‏ حتى يأتينا وحي كما يأتيه إلخ غاية لعدم الرضى لا لعدم الاتباع فإنه مقرر على تقديري إتيان الوحي وعدمه، فالمعنى لن نؤمن برسالته أصلاً حتى نوتى نحن من ‏(‏الوحي و‏)‏ النبوة مثل ما أوتي رسل الله أو إيتاء مثل إيتاء رسل الله»، ولا يخفى أنه يجوز أن تكون حتى في كلام اللعين غاية للاتباع أيضاً على أن المراد به مجرد الموافقة وفعل مثل ما يفعله صلى الله عليه وسلم من توحيد الله تعالى وترك عبادة الأصنام لا قفو الأثر بالإئتمار، على أن اللعين إنما طلب إتيان وحي كما يأتي النبي صلى الله عليه وسلم وليس ذلك نصاً في طلب الاستقلال المنافي للاتباع‏.‏

ولعل مراده عليه اللعنة المشاركة في الشرف بحيث لا ينحط عنه عليه الصلاة والسلام بالكلية؛ ويمكن أن يدعي أيضاً أن هؤلاء الكفرة لكون كل منهم أبا جهل بما يقتضيه منصب الرسالة لا يأبون كون الرسولين يجوز أن يبعث أحدهما إلى الآخر ويلزم أحدهما امتثال أمر الآخر واتباعه وإن كان مشاركاً له في أصل الرسالة فليفهم، وقيل‏:‏ إن الوليد بن المغيرة قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لو كانت النبوة حقاً لكنت أولى بها منك لأني أكبر منك سناً وأكثر مالاً وولداً فنزلت هذه الآية‏.‏ وتعقبه الشيخ قدس سره «أنه لا تعلق له بكلامهم المردود إلا أن يراد بالإيمان المعلق بما ذكر مجرد الإيمان بكونه الآية النازلة وحياً صادقاً لا الإيمان بكونها نازلة إليه عليه الصلاة والسلام فيكون المعنى وإذا جاءتهم آية نازلة إلى الرسول قالوا‏:‏ لن نؤمن بنزولها من عند الله حتى يكون نزولها إلينا لا إليه لأنا نحن المستحقون دونه فإن ملخص معنى قوله‏:‏ ‏(‏لو كانت النبوة حقاً‏)‏ الخ لو كان ما تدعيه من النبوة حقاً لكنت أنا النبي لا أنت وإذا لم يكن الأمر كذلك فليست بحق، ومآله تعليق الايمان بحقية النبوة بكون نفسه نبياً»‏.‏ وأنت تعلم أن إطلاق النبوة وقولهم ‏{‏رُسُلُ الله‏}‏ ليس بينهما كمال الملاءمة بحسب الظاهر كما لا يخفى، فالحق سقوط هذا القول عن درجة الإعتبار وإن روي مثله عن ان جريج لما في تطبيقه على ما في الآية من مزيد العناية‏.‏ و‏{‏مِثْلَ مَا أُوتِىَ‏}‏ نصب على أنه نعت لمصدر محذوف و‏(‏ ما‏)‏ مصدرية أي حتى نؤتاها إيتاء مثل إيتاء رسل الله، وإضافة الإيتاء إليهم لأنهم منكرون لإيتائه عليه الصلاة والسلام، و‏{‏حَيْثُ‏}‏ مفعول لفعل مقدر أي يعلم وقد خرجت عن الظرفية بناء على القول بتصرفها ولا عبرة بمن أنكره، والجملة بعدها كما نص عليه أبو علي في «كتاب الشعر» صفة لها، وإضافتها إلى ما بعدها حيث استعملت ظرفاً‏.‏

وقال الرضي‏:‏ الأولى‏:‏ أن حيث مضافة ولا مانع من إضافتها وهي اسم إلى الجملة، وبحث فيه، ولا يجوز فيها هنا عند الكثير أن تكون مجرورة بالإضافة لأن أفعل بعض ما يضاف إليه، ولا منصوبة بأفعل نصب الظرف لأن علمه تعالى غير مقيد بالظرف وممن نص على ذلك ابن الصائغ، وجوز بعضهم الثاني ورد ما علل به المنع منه بأن يجوز جعل تقييد علمه تعالى بالظرف مجازياً باعتبار ما تعلق به بل ذلك أولى من إخراج حيث عن الظرفية فإنه إما نادر أو ممتنع‏.‏

وجملة ‏{‏الله أَعْلَمُ‏}‏ الخ استئناف بياني، والمعنى أن منصب الرسالة ليس مما ينال بما يزعمونه من كثرة المال والولد وتعاضد الأسباب والعدد وإنما ينال بفضائل نفسانية ونفس قدسية أفاضها الله تعالى بمحض الكرم والجود على من كمل استعداده، ونص بعضهم على أنه تابع للاستعداد الذاتي وهو لا يستلزم الايجاب الذي يقوله الفلاسفة لأنه سبحانه إن شاء أعطى ذلك وإن شاء أمسك وإن استعد المحل، وما في «المواقف» من أنه لا يشترط في الإرسال الاستعداد الذاتي بل الله تعالى يختص برحمته من يشاء محمول على الاستعداد الذاتي الموجب، فقد جرت عادة الله تعالى أن يبعث من كل قوم أشرفهم وأطهرهم جبلة، وتمام البحث في موضعه‏.‏ وقرأ أكثر السبعة ‏{‏رسالاته‏}‏ بالجمع، وعن بعضهم أنه يسن الوقف على ‏{‏أُوتِىَ رُسُلُ الله‏}‏ وأنه يستجاب الدعاء بين الآيتين ولم أر في ذلك ما يعول عليه‏.‏

‏{‏سَيُصِيبُ الذين أَجْرَمُواْ‏}‏ استئناف آخر ناع عليهم ما سيلقونه من فنون الشر بعدما نعى عليهم حرمانهم مما أملوه، والسين للتأكيد، ووضع الموصول موضع الضمير لمزيد التشنيع، وقيل‏:‏ إشعاراً بعلية مضمون الصلة أي يصيبهم ألبتة مكان ما تمنوه وعلقوا به أطماعهم الفارغة من عز النبوة وشرف الرسالة ‏{‏صَغَارٌ‏}‏ أي ذل عظيم هوان بعد كبرهم ‏{‏عَندَ الله‏}‏ يوم القيامة‏.‏ وقيل‏:‏ من عند الله وعليه أكثر المفسرين كما قال الفراء، واعترضه بأنه لا يجوز في العربية أن تقول جئت عند زيد وأنت تريد من عند زيد، وقيل‏:‏ المراد أن ذلك في ضمانه سبحانه أو ذخيرة لهم عنده وهو جار مجرى التهكم كما لا يخفى ‏{‏وَعَذَابٌ شَدِيدٌ‏}‏ في الآخرة أو في الدنيا ‏{‏بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ‏}‏ أي بسبب مكرهم المستمر أو بمقابلته، وحيث كان هذا من أعظم مواد إجرامهم صرح بسببه‏.‏